بالأخير قال الظاهرية، فأحكام الشريعة عندهم تعبد محض لا تعلل، ولا يقاس عليها، ولذلك فهم يجعلون الخيار للجلاب، مطلقا إذا هبطوا السوق سواء غبنوا في البيع، أو لم يغبنوا عملا بإطلاق الحديث. وبالتالي قال المالكية، فالمنع عندهم من التلقي مقصود منه مصلحة أهل الأسواق الذين جلسوا يبتغون فضل الله، ورحمته، ويترقبون ورود أهل البضاعات إليهم، ليتسابقوا في الشراء منهم. والنتيجة الحتمية لهذا الرأي أن الجالب لا حق له فيه فسخ البيع، إذا هبط السوق، وتبين أنه قد غبن، وهذا هو مذهب المالكية بعينه. إلا أنهم اختلفوا هل يجبر المتلقي على شراكة أهل السوق في السلعة وفقا للضرر بهم بقدر الإمكان أم لا يجبر، لأن البيع قد وقع صحيحا، ولا ينزع من أحد ملكه قهرا عنه. روايتان: وبمثل قول المالكية قال الحنفية، إلا أنهم يفترقون عن المالكية من جهة أن البائع لا يجبر على إشراك أهل السوق عندهم قولا واحدا. وهذا آت من جهة، أنهم راعوا مصلحة المستهلكين من أهل البلد لا مصلحة التجار والممولين، كما هو رأي المالكية. وبالأول قال الشافعية، فالمنع عندهم مقصود منه مصلحة الجالب نفسه، فلو هبط السوق، وتبين أنه قد غبن في السعر، ولو غبنا يسيرا، فهو بالخيار، إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه بالثمن المتفق عليه، فلو لم يكن هناك غبن، فلا خيار، ولا حرمة. وحجتهم على هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل للجالب الخيار إذا هبط السوق، وما ذاك إلا لمعرفته بالسعر حينئذ، فلا يفسخ إلا إذا عرف أنه مغبون، وإلا لم يكن لهذا التقييد من فائدة. ويفرق بعض الشافعية بين ثبوت الخيار للبائع إذا تلقاه المشتري، فاشترى منه بغبن، وبين عدم ثبوته له إذا اشترى منه المشتري بغبن في الحضر، بأن المشتري في الحالة الأولى غرر بالبائع، حيث أخبره بالسعر على غير حقيقته، وهذا فرق غير وجيه، لأنه لو اشترى منه فغبنه كان له الخيار، ولو لم يخبره بسعر السوق، وأيضا لو دلس البائع على المشتري في السعر في الحضر، فقال: أعطيت في هذه السلعة كذا وكذا، فصدق المشتري فلا خيار له، كالبخس سواء بسواء وإذا فالتغرير غير معتبر عندهم في إثبات الخيار للمغبون، وأما الحنابلة فالظاهر من شأنهم أنهم يجعلون المقصود من النهي عن تلقي الجلب هو مراعاة المصلحتين معا مصلحة الجلاب، ومصلحة أهل الأمصار، فجعلوا الجالب بالخيار إذا غبن غبنا فاحشا، وحرموا التلقي إذا تضرر به أهل المصر، وهذا كما هو ظاهر. أعدل المذاهب، والنص لا يفيد سوى قصر الخيار على الجلاب، والحرمة أمر وراء ذلك. هذا مذهب الحنفية، والمالكية القائل: إنه لا خيار للجلاب، إذا باعوا بغبن، فهبطوا السقو، وتبينوا الحقيقة مخالف لصريح النص. ومحاولة استخراج علة خاصة من النص تتنافى وثبوت الخيار لهم محاولة تهدم النص، وهي في الوقت نفسه عكس ما هو المعروف لدى جميع العلماء من أنه يؤخذ النص بعد ثبوت صحته على أنه مسلم=