ثمَّ قال: وقوله: لا يمنع الجود قاتله، أراد: إنَّ الجود وإن قتله لا يمنع، فقاتله منصوب على الحال، أي: لا يمنع في حال قتله إيّاه، لأنَّ الجود يفقره، ويجوز أن ينصب قاتله على أنه مفعول، أي: لا يمنع من يريد أن يقتله الجود، يدلك عليه كما قال آخر:
ولَوْ لمْ يكُنْ في كَفِّهِ غيرُ نفسِهِ .. لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ
ويجوز أن يكون معنى "قاتله" من قَتَلْ من تكرَّمَ عليه، لأنَّ فاعل ذلك قاتله له، ومع ذلك فلا يمنعه ذلك أن يجود عليه، وقد قال تعالى:(فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ)[البقرة/ ١٩١] ولا يصحّ أن يكون هذان البيتان في شعر واحد؛ لأنَّ الأوَّل منصوب، وهذا مرفوع، هذا كلامه. وفيه قلاقة.
ونقل ابن المستوفي في "شرح أبيات المفصّل" عن أبي العبّاس أحمد المعروف بابن الحبّاز قال: قوله: لا يمنع الجود قاتله، معناه: لا يمنع جوده الذي قتله، أي: لا يحرم جوده من يقتله، ورفع قاتله بقوله يمنع، ويكون على هذا لا يمنعه قاتله الجود، ويكون قد حذف المفعول الأوَّل، وهذا متكلّف، وما سبق أولى. انتهى.
ولم أر من روى قاتله بالرَّفع، وهؤلاء كلّهم بنوا شرح البيت على رواية الجود بالدّال، ورواية الجوع بالعين غير مقبولة عندهم لكن قد جاء هذا عند العرب في إطعام الطّعام كثيرًا، وافتخروا به، ومدحوا، قال زهير بن أبي سلمى:
إذا مَا أتَوْا أبوابَهُ قالَ مَرْحَبًا ... لِجُوا البابَ حتى يأتيَ الجوعَ قاتِلُهْ
وأنشد أبو تمّام في "الحماسة":
تَرَكْنَا فتىً أيقنَ الجوعُ أنَّهُ ... إذا ما ثَوَى في أَرْحُلِ القوْمِ قاتلُهْ