وههنا بحث, وهو أن الشاعر وإن كان من المغرمين المنهمكين بها, لكنه من ذوي العقول الكاملة, فكيف يظن به أنه غير قاطع بما يتيقنه غيره من عدم الذوق بعد الموت! بل هو أمر مركوز في الأذهان, غني عن البيان, وإنما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخيلاتهم, ورام سلوك جادة تمويهاتهم, فإنهم سحرة الكلام, ومخترعوا صور الإبهام, فأمر أولًا بدفنه بعد الموت بجانب كرمة, وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله: تروي عظامي بعد موتي عروقها, ليستفاد من ذلك علة الأمر بالدفن المذكور, إشارة إلى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله, وإذا تعذرت التروية الحقيقية, فلا أقل من حصول التروية المجازية, ثم نهى ثانيًا تأكيدًا للأمر الأول عن دفنه لا بجانب كرمة, وعلل ذلك بأنه يتيقن أنه لا يذوقها إذا مات, فلا يتروى بها حقيقة, فدفنه لا إلى جانبها أيضًا مفوت للتروية المجازية, ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إبهامًا, لأنه مع ذلك لا يقطع بعدم الذوق, وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلًا على ما قصده معنى, وإنما قلنا: إن تروية العظام مجازية, لأن الري حقيقة لذوات الأكباد عن عطش, وليست العظام منها, على أنه لا عطش بعد الموت, أو لما له قوة نامية, ومنه قولهم: روي النبات من الماء, والعظام جماد, انتهى كلامه, ومن خطه نقلت. وروى البيت ابن السكيت كذا:
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... يقينًا إذا ما مت لست أذوقها
والبيتان مطلعا قصيدة لأبي محجن الثقفي رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه, وبعدهما:
أبا كرها عند الشروق وتارةً ... يعاجلني عند المساء غبوقها