إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلّا لصحته عنده، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا، من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يستدل عليه.
وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، إذ يقال له "افعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، و"لا تفعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوىً باعث على مقتضى الأمر والنهى، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون، فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا؛ حتى إنّه لو وكل إليه تشريعه - مثلا - لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق، وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس؛ فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون: ٧١] فإذا إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاءً من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعًا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذًا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله (١).