وكذلك ستأتي حيلة في قوله:{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[يوسف:٧٠] ، وهذه وتلك يؤخذ منها شيء، وهو: مشروعية بعض الحيل إذا لم يكن فيها مخالفات للشرع، والحيل على قسمين في الجملة: حيل مباحة ومستحبة أحياناً، وحيل مكروهة ومحرمة.
أما أصل الحيل المباحة المشروعة في كتاب الله فما جاء في قصة أيوب عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام قد أقسم في مرضه أن يجلد امرأته مائة جلدة لما تخلفت عنه لأمر لم يكن عن تعمد منها، فأقسم إن شفاه الله أن يجلدها مائة جلدة، وامرأته لا تستحق هذا العقاب الشديد، فقال الله له حتى لا يحنث في يمينه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}[ص:٤٤] ، أي: شمراخاً به مائة عود، أو حزمة بها مائة عود، واضرب الزوجة بها ضربة واحدة تكن قد بررت في يمينك يا أيوب، (وَلا تَحْنَثْ) ، أي: ولن تقع في الحنث في اليمين الذي هو عدم الوفاء باليمين.
فهذا من الحيل المشروعة.
ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي ما زالت في عدتها، فكما هو معلوم أنه يحرم على شخص أن يتقدم لخطبة امرأة مات عنها زوجها وهي ما زالت في العدة، لكنه يجوز له أن يعرض، كما قال تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ}[البقرة:٢٣٥] ، فإذا كانت المرأة على سبيل المثال طويلة وسمراء، ولها أولاد أيتام، فيأتي إليها الرجل معرضاً ويقول: والله وددت أنني تزوجت امرأة سمراء طويلة، أو وددت كذلك أن أكفل أيتاماً، فهذا تعريض، وهي الأخرى تقول: قد فهمت، لعل الله أن يجيبك إلى ما سألت، فهذه صورة من صور التعريض.
وقد ورد عن بعض أبناء جعفر أنه جاء إلى امرأة مات عنها زوجها وهي في العدة يعرض لها فيقول ما معناه: أنا ابن جعفر الطيار، أي: أن أباه يطير بجناحيه مع الملائكة، وعمي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وابنا عمي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعمي علي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قالت المرأة: أتخطبني وأنا في العدة؟ قال: ما خطبتك إنما أنا أعرض، رضي الله تعالى عنه.
الشاهد: أن هذه من الحيل الجائزة، لكن ثَم حيل محرمة ومكروهة: أما المحرمة فتلك التي صنعها الإسرائيليون؛ إذ ذكرهم الله سبحانه في قوله:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}[الأعراف:١٦٣] ، أي: تأتي الأسماك ظاهرة على وجه الماء غير مختفية، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:١٦٣] ، فكان الإسرائيليون قد حُرِّم عليهم العمل يوم السبت، وابتلاهم الله في هذا اليوم بأسماك تأتي على وجه الماء ظاهرة وبادية في جماعات كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي؛ ابتلاء من الله بسبب الفسق الذي هم فيه، فاحتالوا حيلاً لصيد الأسماك -كما ذكر بعض العلماء ذلك- فنصبوا شباكاً يوم الجمعة؛ حتى يقع السمك فيها يوم السبت ثم يسحبونها يوم الأحد، وغير ذلك من الحيل المحرمة.