[استجابة الله ليوسف وصرف كيد النسوة عنه]
ماذا قال يوسف والنسوة يتواطأن عليه ويتظاهرن عليه ويتفقن عليه، وكل منهن تلح أن يفعل الفاحشة معها ومع امرأة العزيز؟ حينئذ ليس ليوسف ملجأ من الله إلا إليه، فقال يوسف صلى الله عليه وسلم مقولة الكريم المحسن العفيف الطاهر الطيب: {قَال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣] ، أي: أميل إليهن، ومنه قول الشاعر: إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبا فاستفدنا من الآية الكريمة: أن المحفوظ من حفظه الله، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، وهذا المعنى مستفاد كذلك من الكلمة التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فمن معاني تلك الكلمة المباركة الطيبة التي لا يدرك معناها كثيرون: لا تحول لي عن معصية الله إلا إذا حولني الله، ولا قوة لي على طاعة الله إلا إذا قواني الله، لا تحول لي عن أمر مهما كان إلا إذا حولني الله عز وجل، ولا قوة لي على أي عمل كان إلا إذا قواني الله عليه.
وهذا المعنى معنى حسن ينبغي أن يتفطن له أهل الفطنة والإيمان، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أتريدون أن تجتهدوا في العبادة؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهذا المعنى فهمه أولو الألباب، وقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:٨٠] ، أنا لا أخشى أصنامكم ولا آلهتكم، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام:٨٠] ، فإذا شاء الله لي أن أتحول إلى الشرك -والعياذ بالله- سيتحول الشخص إلى الشرك، فجدير بالمسلم أن يفهم تماماً هذا المعنى، أن الذي يصرف السوء هو الله، وأن الذي يعصم من الزلل هو الله، فليسأل ربه العصمة من الزلل، وليسأل ربه الثبات على الإيمان، فأنت يا عبد الله ضعيف، ولا قوة لك إلا بالله، فاطلبها منه واستمدها منه سبحانه وتعالى.
قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، إذا خيرت يا رب بين الفاحشة وبين السجن فأنا أختار السجن، وهو أحب إلي مما يدعونني إليه، فإذا زلت قدم في الزنا تنزع النور والبهاء من قلب الزاني والعياذ بالله! ينزع الإيمان ويكون فوق رأسه كالظلة إذ هو يزني، وتجلب له نكداً وهماً في الدارين الدنيا والآخرة، وتتسبب في حرق فرجه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومررت برجال ونساء عراة على مثل التنور يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم، فيسمع لهم ضوضاء وصياح، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني!) ، فهذا شيء من مصيرهم، قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:٦٨] ، فعياذاً بالله من هذه الفاحشة! وعياذاً بالله من هذه الموبقة! قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، سجن لطاعته لربه يرث فيه إيماناً يجد حلاوته في قلبه، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، هنا يقول العلماء أو فريق منهم: لا إكراه على الزنا لهذه الآية، فإذا أكرهت على الزنا فلتسجن خير لك.
وفي الآية دليل على أنهن تآمرن جميعاً عليه، وكدن لهن جميعاً، سواء كدن لأنفسهن أو كدن لأمرأة العزيز، بدليل قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، أي: أميل إليهن، {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، ليس المقصود بالجاهل هنا الذي خفي عليه حكم مسألة، إنما الجاهل هو الذي عصى ربه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:١٧] ، فليس معناه الخطأ، فالمخطئ مرفوع عنه القلم، ولكن كما قال ابن عباس وغيره: (كل من عصى الله فهو جاهل) .
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:٣٤] ، فإنه مخير: إما أن تسجن وإما أن تزني، وكلاهما شر، فاختار أخف الشرين وهو السجن، ولهذه القاعدة شواهد، منها قصة موسى مع الخضر في شأن السفينة، فخرق السفينة وارد، واغتصابها وارد، فاختار الخضر خرق السفينة بدلاً من أن تغتصب، وكذلك في المرأة المختلعة، التي خافت ألا تقيم حدود الله مع زوجها، فهي بين الشرين: إما أن تتنازل الزوجة عن المال وهو المهر، وإما أن تضار في دينها، فدفعت الضرر عن دينها بمال دفعته لزوجها، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:٢٢٩] .
وهذا أصل عظيم يعمل به في الملمات والشدائد، فلو أتاك رجل يجري وخلفه سفاح قاتل، فدخل الذي يجري بيتك وجاء السفاح فسألك: هل دخل بيتك فلان؟ فإذا أخبرته قتله، وإذا كذبت فقد كذبت والكذب إثم، فتختار أخف الضررين وهو الكذب دفعاً لمفسدة القتل، وهكذا تسير الأمور.
فإذا تواردت المفاسد اخترنا أخف المفاسد، فالغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وقتله إثم وجرم، ولكن اختير القتل على تكفير الأبوين وإرهاقهما، فإذا تواردت علينا الشرور والمفاسد اخترنا أخفها.
وحينئذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، السميع للأقوال، وللدعوات، الذي لا يخفى عليه دعاء داعيه، ولا سؤال سائله، العليم بالنوايا، وبالقلوب، علم ربنا من قلب نبيه يوسف عليه السلام أنه لا يريد الفاحشة، فصرفه الله عنها، فالتعويل في كثير من المسائل على القلوب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:٧٠] ، وقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨] .