لهذه الآية سببان في النزول: سبب أشهر، ولكنه من ناحية الصحة أقل صحة، وسبب أصح ولكنه أقل شهرة، أما السبب الأشهر فهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية -أي: جامع جاريته مارية القبطية التي هي أم إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك في بيت حفصة وفي ليلة حفصة وعلى فراش حفصة رضي الله تعالى عنها، وكما هو معلوم فإن الرجل لا يقسم للإماء، إنما يأتيهن كيفما أراد ومتى ما أراد، أي: أن الزوج عليه أن يقسم بين الزوجة وبين الزوجة الأخرى، أما الإماء فلسن كذلك، فللسيد أن يطأ الأمة في أي وقت شاء؛ إذ ليست بمقسوم لها.
فالذي حدث:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية في ليلة حفصة وعلى فراش حفصة؛ فعلمت بذلك حفصة رضي الله عنها، فدخلت محتدة قائلة: أفي بيتي وعلى فراشي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تخبري بذلك أحداً، وقد حرمتها على نفسي، ولن أقربها بعد ذلك، فنزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم:١] ) ، وفي بعض الروايات:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي عليَّ حرام) ، هذا هو أشهر سبب لنزول الآية.
لكن أصح سبب هو:(أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فكان يدخل عند زينب ويمكث عندها طويلاً فتسقيه عسلاً، فتواطأ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لبعضهن البعض: أيتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل له إذا أقبل عليها: إني أجد منك ريح مغافير، فتواطأت حفصة مع عائشة على ذلك، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب عسلاً من عند زينب قالت له حفصة: ما لك! أكلت مغافير؟! إني أجد منك ريح مغافير، قال: ما أكلت مغافير، بل شربت عسلاً، ولن أعود وقد حلفت، فنزلت الآية) .
فهذا هو السبب الأصح للنزول.
وعلى كلٍ فالمؤدى واحد، فالشاهد منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه أشياء ابتغاء مرضاة الأزواج، أو طلباًَ لمرضات الأزواج، فعاتبه ربه سبحانه وتعالى بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}[التحريم:١] ، فلا ينبغي أن تكون الزوجة حكماً على الشرع، بل الشرع يقضي عليها وعلى الزوج وعلى الأولاد، ويقضي على الجميع، ولا يليق بك أيها الرجل أن تجعل امرأة ناقصة العقل والدين حكماً على الشرع، فتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء من أجلها.