[تفسير قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:٦٦-٦٨] .
قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم) الضمير في قوله تعالى: (عليهم) يرجع إلى من؟ قال فريق من المفسرين: إنه يرجع إلى أهل النفاق، والمعنى على هذا التأويل: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبنا ذلك على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا إلى الحبشة، (ما فعلوه) أي: ما فعلوا ذلك، أعني: قتل النفس، والمراد به: قتل بعضهم بعضاً كما فعل بنو إسرائيل مع بعضهم، وكذلك الخروج من الديار، لا يفعل ذلك المنافقون، فالمعنى: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبناه على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} في الآية إشارة إلى أن الشخص يقنع بالتكاليف التي كلفه الله تعالى بها، ولا يسأل الله المزيد من التكاليف، فلعله إن سأل مزيداً من التكاليف وكُلف ألا يقوم بتلك التكاليف، وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا وسلوا الله العافية) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا الآيات -أي: لا تسألوا المعجزات- فقد سألها قوم من قبلكم ثم كفروا بها) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي هذا الباب أيضاً يقول الله تعالى ناقماً على قوم سؤالهم مزيداً من التكاليف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٤٦] ، استطردوا فسألوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٦] لما جاءهم طالوت ملكاً قالوا معترضين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:٢٤٧] ، فالشخص ينبغي له ألا يسأل مزيداً من التكاليف، فلعله إن كلف أن ينكص على عقبيه، وقد قال الله تعالى في شأن أقوام كهؤلاء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:٧٧] ، وهم كانوا قد سألوا ربهم سبحانه وتعالى التكليف بالقتال، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) ، فهذا كله يفيد أنه ينبغي للشخص ألا يسأل ربه مزيداً من التكاليف، ومن ذلك: الإمارة، إذا سألها الشخص لم يعن عليها، وإذا أتيت إليه رغماً عنه أعانه الله تبارك وتعالى عليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، فجدير بالشخص أن يقنع بما كلفه الله سبحانه وتعالى، ولا يسأل ربه مزيداً من التكاليف لعله ألا يقوم بتلك التكاليف التي أمره الله تبارك وتعالى بها.
قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) قال كثير من المفسرين -كما سمعتم-: إن (عليهم) أي: على أهل النفاق.
وقوله: (أن اقتلوا أنفسكم) أي: يقتل بعضكم بعضاً، فإن النفس تطلق ويراد بها الإخوان أو الأقارب أو الخلان كما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:١١] ، وكما قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] ، وكما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:١٢] أي: بإخوانهم، فكل هذا يفيد أن النفس قد تطلق على نفس الشخص أحياناً، وتطلق على إخوانه أحياناً أُخر، والآية هنا محتملة للوجهين من التفسير.
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} الضمير في (فعلوه) يرجع إلى القتل، ويرجع إلى الإخراج أيضاً، يرجع إليهما معاً، والضمير قد يثنى ويراد به المفرد ويراد به الجمع، وقد يفرد ويراد به المثنى ويراد به الجمع، وهذا وارد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٣٤] ولم يقل: ولا ينفقونهما في سبيل الله، وقال تعالى في نحو هذا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:٥٠] ، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥] ، ومن العلماء من قال: (وإنها) ترجع إلى الاستعانة نفسها فخرج من الإشكال، ومن تثنية الضمير وإرادة الجمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] ولم يقل: يديهما، فجمع الأيدي، والسارق والسارق مثنى، والله سبحانه أعلم.
فقوله تعالى: (ما فعلوه) أي: ما فعلوا الاثنين معاً: القتل والإخراج.
قوله: (ما فعلوه إلا قليل منهم) أي: قليل منهم من يمتثل الأمر في الظاهر، هذا إذا حملت الآية على أهل النفاق، فأهل النفاق إن نفذوه ينفذونه ظاهراً، أما باطناً فلا تطاوعهم قلوبهم على فعل أمر الله وفعل أمر رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فالأكثرون لا يقومون بالتكاليف، ومن ثم قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] ، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان أو الثلاثة، والنبي يمر وليس معه أحد) ، وقال تعالى أيضاً مبيناً أن الكثرة غاوية: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠] .
قال سبحانه هنا: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} المراد بالوعظ هنا: الأمر، أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، الوعظ يطلق أحياناً على الزجر، ويطلق أحياناً على التذكرة، ويطلق أحياناً على الأمر، والمراد به هنا: الأمر، ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، أي: اقتصروا على فعل أمروا به ((لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)) أي: خيراً لهم من طلب تكاليف أخر لا يستطيعون القيام بها، فالقصد في العبادة والمداومة على القليل مطلب شرعي، سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن عمله فقالت: (كان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه) ، أو كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وهذا عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما كانت له في شبابه همة عالية للعبادة، وحثه النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كل شهر مرة فقال: (إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأه في الشهر مرتين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله، قال: فاقرأه في كل أسبوع مرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأ في ثلاث ولا تزد على ذلك) ، وفي آخر حياته كان يقول -لما كبر ولم يطق القيام والصيام-: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فالمداومة على العبادة وإن كانت قليلة، أولى من الاندفاع إليها والإكثار منها ثم الفتور والخمول بعد ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) ، أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوع