وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا غَيْرَ مَشْرُوطٍ [فوجب أَنْ يَسْتَحِقَّ الْآخَرُ فِيهِ حَقًّا غَيْرَ مَشْرُوطٍ] كَالَّذِي ذَكَرُوهُ مِنَ النِّكَاحِ وَالَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ بِغَيْرِ شَرْطِ الْوَلَاءِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ.
وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ مِثْلَهُ، لِأَنَّ وَصْفَ الْعِلَّةِ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ الْعِتْقُ بِالْعِوَضِ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي النَّوْعِ، وَإِنْ شَذَّ عَنْ بَعْضِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُسْتَمِرٌّ فِي الْعُقُودِ طَرْدًا فِي النِّكَاحِ، وَعَكْسًا فِي الْبُيُوعِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَعُونَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى غَيْرِ سَادَاتِهِمْ مِنْ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ وُجُوبُ مَعُونَتِهِمْ عَلَى سَادَاتِهِمْ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ زَكَاتِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَانْصَرَفَ الْوُجُوبُ إِلَى غَيْرِ زَكَاتِهِمْ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّنَا نَقُولُ مَعَ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ أَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلَا نَجْعَلُ الدِّرْهَمَ الْبَاقِي قِصَاصًا مِنَ الْإِيتَاءِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَسَاوِي الْحَقَّيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالْعِلْمِ بِالْمِقْدَارِ، وَمِقْدَارُ الْإِيتَاءِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنْ مَعْلُومٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ لَتَقَدَّرَ بِهِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِالشَّرْعِ مَا يَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ كَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ الْإِيتَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي الْعِوَضِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ الْإِيتَاءُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَدْفَعَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْجَهَالَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ إِذَا تَضَمَّنَهَا الْعَقْدُ، وَلَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ إِنْ طَرَأَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ وَأَرْشُهُ مَجْهُولٌ، وَهُوَ مَحْطُوطٌ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ، لِحُدُوثِهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، كَذَلِكَ الْإِيتَاءُ فِي الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ الصِّفَةِ وَيُغَيِّرُ حُكْمَهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ يُؤَدَّى مَعَ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ، وَيَكُونُ رَدًّا أَوْ إِبْرَاءً.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِيتَاءِ تَوَجَّهَ الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي ثلاثة فصول:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute