للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سنة خمسين وأربعمائة (١):

فى أول المحرّم قبض المستنصر على وزيره الناصر للدّين، غياث المسلمين، أبى محمد اليازورى، وكان قد جمع له ما لم يجتمع لغيره من تقليد الوزارة وقضاء القضاء وداعى الدّعاة. وكان للقبض عليه أسباب، منها أن طغرلبك لمّا ملك بغداد كان بها لليازورى عيون كثيرة يطالعونه بدفين الأمور وجليلها، فوصلت كتبهم بوصوله، وأنهم سمعوه يذكر إزماعه على التوجه نحو الشام ليملكه. فقلق لذلك ورأى أنّ الحيلة أبلغ من الاستعداد له، فكتب إليه يهنئه بوصوله إلى العراق، ويبذل له من الخدمة ما يوفى على أمله، وأن مصر وأعمالها بحكمه، وأنه وإن كان مستخدما لدولة ويدعو إليها فإنّه يعلم كثرة الاختلاف، فمن تجاوزها فى نسبها، واتفاق الكلمة ووقوع الإجماع على الرّضا بالخليفة الصّحيح النسب، الصّريح الحسب، الهاشمىّ العباسىّ، وأنه لا يمتنع عن الإقرار له بذلك. وأعطاه صفقة يده على مبايعته، وتسليم الدولة له. وأنه قد اتصل به إزماع حضرته على التوجّه إلى الشام، وأنه أشفق من تسليمها إليه فتطؤها عساكره مع كثرتها وتجمّعها فيخربها ويعفى آثارها، ولا يقع بملكها انتفاع، ولا يرجى لها ارتفاع (٢)؛ فإن رأى أعفاها من وطء العساكر لها، ووصول ركابها إليها، على وجه الفرجة والنظر إلى دمشق وحصنها، فلها عالى رأيها.

فلما وقف طغرلبك على كتابه قال هذا كتاب رجل عاقل، ويجب أن يعتمد ما أشار به بالإذن للعسكر فى عودتهم إلى بلادهم؛ فمضى كلّ منهم لوجهه. ثم أمر فضرب فساطيطه فى الجانب الغربى من بغداد؛ فكتب بذلك عيون اليازورى إليه، فقلق، ثم كتب إليه:

«لا تغرنّك الأمانى والخدع بأن أسلّم إليك أعمال الدولة»، وأخون أمانتى لمن غذانى فضله وغمرنى إحسانه، وتتعيّن علىّ طاعته وموالاته. فإن كنت تسلّم إلىّ ما فى يدك لصاحبك من العراق وأعماله سلّمت إليك ما فى يدى لصاحبى، بل الواجب أن تكون كلمة الإسلام مجموعة


(١) ويوافق أول المحرم منها الثامن والعشرين من فبراير سنة ١٠٥٨.
(٢) الارتفاع ما يتحصل من الدواوين بعد جمع الموارد الحكومية، أى إيرادات الدولة.