أخبارها، وأحب الإشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مساءلة الركبان عن سكان ديارها، فقيدت بخطى فى الأعوام الكثيرة، وجمعت فى ذلك فوائد قلّ ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها إهاب، إلا أنها ليست بمرتبة على مثال، ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية، والقرون الخالية … الخ».
هذا الشعور الوطنى القوى الممتاز كان شعورا مبكرا سبق به المقريزى عصره، فنحن لا نجد له شبيها حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادى حين يبدأ الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى يشيد بذكر الوطن والوطنية فى كتابه القيم «مناهج الألباب المصرية»، وفى أناشيده الشعرية الكثيرة.
وقد أرضى مؤرخنا المقريزى شعوره الوطنى حين أرّخ فى كتابه «المواعظ والاعتبار» للمدن المصرية الهامة، وما كان يكتنفها من خطط وحارات ودروب وأزقة وأسواق، وما كان يتناثر فيها من دواوين ودور وقصور، وما كان يزينها من مساجد وكنائس وبيع، وما كان يتخللها من مدارس ومكتبات ودور للحكمة والعلم.
وقد تعرّض وهو يؤرخ لهذا كله لبعض الشخصيات التى ساهمت فى عمران هذه المدن أو إقامة هذه المنشآت، فترجم لها ترجمات مفصلة حينا، وموجزة فى معظم الأحيان.
***
ويبدو أن هذا التأريخ العمرانى لمصر لم يشبع عاطفة مؤرخنا، فأراد أن يؤرخ لمصر تأريخا سياسيا كاملا منذ الفتح العربى إلى عصره الذى عاش فيه (القرن التاسع الهجرى - الخامس عشر الميلادى).
وقد اتخذ المقريزى لنفسه منهجا علميا سليما حين أراد أن يكتب هذا التاريخ السياسى، فقسّم تاريخ مصر الإسلامية عصورا ثلاثة، وخصّ كلّ عصر منها بكتاب: