وأما أهل التحقيق من الشافعية، فقد قالوا بأن موجب الحمل هو القياس الصحيح الذي يقتضى التقييد، كما في تقييد الرقبة بالمؤمنة في آيتي الظهار والقتل. قال الشيرازي: "وان لم يعارض المقيد مقيدّ آخر كالرقبة في كفارة القتل" والرقبة في الظهار، قيدت بالأيمان في القتل بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: ٩٢] ، وأطلقت في الظهار بقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: ٣] حمل المطلق على المقيد، فمن أصحابنا من قال: يحمل من جهة اللغة، أي: بمجرد ورود اللفظ من غير حاجة إلى جامع؛ لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة، أي: أن بعضه يفسّر بعضاً، فإذا قيدت الرقبة في كفارة القتل بالإيمان قيدت في كفارة الظهار به. وقال بعضهم: يحمل من جهة القياس- أي: قياس المطلق على المقيد بجامع بينهما وهو اتحاد الحكم- وهو الأصح. وقال أصحاب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز حمل المطلق على المقيد، لأن ذلك زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، وربما قالوا: لأنه حمل منصوص، والدليل على أنه لا يحمل من جهة اللغة أن اللفظ الوارد فيه التقييد وهو القتل، لا يتناول المطلق وهو الظهار، فلا يجوز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة كلفظ البُرَّ؛ لما لم يتناول الأرز، لم يجز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة، فكذلك هنا، والدليل على أنه يحمل عليه بالقياس هو أن حمل المطلق على المقيد تخصيص عموم بالقياس، فصار كتخصيص سائر العمومات. وذهب بعض العلماًء إلى عدم جواز الحمل بالقياس، واستدلوا على فساد ذلك الحمل بحجج تثبت ما ذهبوا إليه، بينما رأى البعض أن موجب الحمل هو العقل، فالعقل عندهم هو الأصل في جواز الحمل، غير أنهم لم يسوقوا حجة تؤكد ما ذهبوا إليه، ولعل هذا الرأي هو أضعف الآراء في هذه القضية. ولقد اشترط من قال بحمل المطلق على المقيد عدة شروط يجدر بنا أن نذكرها كالآتي: ١- اشترطوا أن تكون الذوات ثابتة في كل من المطلق والمقيد، وأن يختص المقيد بكونه من باب الصفات حتى يحمل المطلق عليه، أما إذا كان في أحدهما زيادة أو عدد في أصل الحكم، فلا يجوز حمل أحدهما على الآخر، على سبيل المثال إذا أوجب الشارع غسل أربعة أعضاء عند الوضوء مع إيجابه المسح على عضوين عند التيمم، فقد انعقد الإجماع على عدم جواز حمل مطلق التيمم على مقيد الوضوء، فلا يلزم المكلف مسح أربعة أعضاء بدلاً من عضوين؟ حيث إن ذلك يعني إثبات حكم جديد، وإثبات حكم جديد يختص بالذوات دون الصفات، وجواز الحمل إنما يختص بالصفات دون الذوات، ومن الذين قالوا بهذا الشرط القتال الشاشي وأبو حامد الإسفراييني، والماوردي، والروياني، والأبهري من المالكية. ٢- اشترطوا أيضاً أن يكون للمطلق أصل واحد فقط، وعلى سبيل المثال: اشتراط عدالة الشهود في الوصية والرجعة، مع إطلاقها في البيوع وغيرها، فالشهادة شرط في الجميع، أما إذا وقع المطلق ببن قيدين متنافيين، فإن اختلف السبب لم يحمل المطلق على أحد القيدين إلا بدليل، فيحمل على ما دل عليه القياس من باب أولى، أو يحمل على ما قوي دليل حكمه، وممن ذهب إلى هذا الشرط أبو إسحاق الشيرازي، ونقل القاضي عبد الوهاب الاتفاق عليه، ونقضه الزركشي في "البحر". ٣- واشترطوا أن يكون حمل المطلق على المقيد في باب الأمر، أما في باب النهي والنفي فلا يصح الحمل؟ إذ يلزم في النهي والنفي الإخلال باللفظ المطلق، فلو قال الشارع مثلاً: لا تعتق رقبة،......=