(٢) فالظاهر في أقوال أهل العلم السابقة في وصفه بالتدليس، أنَّه خاصٌّ بروايته عن جابر، وليس مُطلقًا، لذا لمّا سأله الليث بن سعد، قيَّد سؤاله بروايته عن جابر، وما عَدَا جابر فلا يُتَوقّف في عنعنته في روايته عن شيوخه الذين ثَبَتَ وصحَّ له سماعه منهم في الجملة، أمَّا من لم يَصِح له سماعه منهم فتُردّ روايته عنهم للإرسال لا للتدليس. يُنظر: "معجم المدلّسين" (ص/٤١٣). (٣) وأمّا ما أخرجه صاحبا "الصحيح" - البخاري ومسلم - من رواية المُدَلِّسين بالعنعنة، ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي الزّبير، عن جابر، من غير رواية الليث عنه، فالعلماء من ذلك على ثلاثة مذاهب: فذهب بعض أهل العلم إلى أنَّها تُعامل كغيرها خارج "الصحيحين": قال الذهبي في "الميزان" (٤/ ٣٩): وفي "صحيح مسلم" عِدَّة أحاديث مِمَّا لم يُوضّح فيها أبو الزّبير السَّماع من جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء، وذكر بعض الأمثلة على ذلك. وفي "السير" (٥/ ٣٨٥)، بعد أنْ ذكر أحاديث من رواية أبي الزّبير، عن جابر، بالعنعنة: فهذه غرائب، وهي في "صحيح مسلم". وعلّقَ محققه الفاضل - بإشراف الشيخ/شعيب الأرناؤوط - بقوله: وتحرير القول في أبي الزّبير أنَّه يُرَدُّ من حديثه ما يقول فيه «عن»، أو «قال»، ونحوهما، سواء كان حديثه في "الصحيح"، أو غيره؛ لأنه موْصوفٌ بالتدليس، إلا ما رواه عنه الليث خاصة.
وبه أيضًا قال ابن حجر في "هدي الساري" (ص/٣٨٥): وأمّا دعوى الانقطاع - أي بالتدليس أو الإرسال، كما يدل عليه كلامه قبل هذا - فمدفوعة عَمَّن أخرج لهم البخاري لِمَا عُلِمَ من شرطه، ومع ذلك فحكم من ذُكِرَ من رجاله بتدليس أو إرسال أن تُسْبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة، فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض، وإلا فلا. ا. هـ بينما ذهب بعض أهل العلم إلى تحسين الظن بـ"الصحيحين"، وأنَّه تُقبل رواية المدلّس إذا روى بالعنعنة وكانت مُخَرَّجة في "الصحيحين"، حتى ولو لم يصرح بالسماع من طرقِ الحديث؛ بحجة أنهما - أي البخاري، ومسلم - قد اطّلعا على تصريحه بالسَّماع، ونحو ذلك - كما سيأتي تفصيله -؛ وبعض هؤلاء ذهب إلى التفصيل بين ما كان من تلك العنعنة في الأصول ووردت مورد الاحتجاج بها، وبين ما كان منها في المتابعات فيحتمل على أن يكون حصل التسامح في تخريجها: قال النووي: في "التقريب" (ص/٣٩): وأمَّا ما كان في "الصحيحين" وشبههما عن المُدَلِّسين بـ «عن»، محمولٌ على ثبوت السَّمَاع من جهة أخرى. ونقله ابن حجر في "النكت" (٢/ ٦٣٥)، فقال: وقد جزم المُصَنِّفُ - ابن الصلاح -، وتبعه النووي، وغيره بأن ما كان في "الصحيحين" وغيرهما من الكتب الصحيحة عن المدلسين، فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى. وقال الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُعَنْعَنَاتِ الَّتِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ؛ يَعْنِي: إِمَّا لِمَجِيئِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِالتَّصْرِيحِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُعَنْعِنِ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ أَوْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، أَوْ لِوُقُوعِهَا مِنْ جِهَةِ بَعْضِ النُّقَّادِ الْمُحَقِّقِينَ سَمَاعَ الْمُعَنْعِنِ لَهَا. يُنظر: "فتح المُغيث" (١/ ٣٢٧). وقال العلائي في "جامع التحصيل" (ص/١١٠) - في رواية أبي الزُّبير، عن جابر، في "صحيح مسلم" خاصة -: وفي "صحيح مسلم" عدة أحاديث مما قال فيه أبو الزُّبير، عن جابر، وليست من طريق الليث، وكأنّ مسلمًا - رحمه الله - اطَّلع على أنها مما رواه الليث عنه، وإن لمْ يَرْوها من طريقه، والله أعلم. ونَقَلَ هذا القول برهان الدين ابن العجمي في "التبين لأسماء المدلّسين" (ص/٥٤). ويُنظر: "تدريب الراوي" (١/ ٣٦٣). وقال العلائي أيضًا في "جامع التحصيل" (ص/١١٣): من احتمل الأئمة تدليسه، وخرجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع - وذلك إمَّا لإمامته، أو لقلة تدليسه في جنب ما روى، أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة -، وذلك كالزهري، والأعمش، والنخعي، وحميد الطويل، ويحيى بن أبي كثير، وابن جريج، والثوري وابن عيينة، وشريك، وهشيم، ففي "الصحيحين" وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع، وبعض الأئمة حمل ذلك على أن الشيخين اطلعا على سمعا الواحد لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ «عن» ونحوها من شيخه. انتهى بتصرف وقال السخاوي في "فتح المغيث" (١/ ٣٢٥ - ٣٢٦): وَفِي كُتُبِ "الصَّحِيحِ" لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، عِدَّةٌ مِنَ الرُّوَاةِ الْمُدَلِّسِينَ، مُخَرَّجٌ لِحَدِيثِهِمْ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ … ، ورُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مُعَنْعنِهِمْ، وَلَكِنْه مَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ السَّمَاعِ عِنْدَهُمْ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذَا كَانَ فِي أَحَادِيثِ الْأُصُولِ لَا الْمُتَابَعَاتِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِمُصَنِّفِيهَا؛ وعلى كل حال: فالحكم كذلك، يَعْنِي: وَلَوْ لَمْ نَقِفْ نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ لَا فِي "الْمُسْتَخْرَجَاتِ" الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وقال السيوطي في "تدريب الراوي" (١/ ٣٦٣): وَمَا كَانَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَشِبْهِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ، عَنِ الْمُدَلِّسِينَ بِـ «عن»، فَمَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ السَّمَاعِ لَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ وَإِنَّمَا اخْتَارَ صَاحِبُ "الصَّحِيحِ" طَرِيقَ الْعَنْعَنَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّصْرِيحِ بِالسَّمَاعِ، لِكَوْنِهَا عَلَى شَرْطِهِ دُونَ تِلْكَ. بينما ذهب الحافظ ابن حجر في "النكت" (٢/ ٦٣٤) إلى التفصيل، فقال - في معرض جوابه عن كلام ابن الصلاح والنووي: بأن ما كان في "الصحيحين" وغيرهما عن المُدَلِّسين فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى -: وليست الأحاديث التي في "الصحيحين" بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط، أمَّا ما كان في المتابعات فيُحْتَمَل أن يكون حصل التسامح في تخريجها كغيرها، وكذلك المدلسون الذين خرَّج حديثهم في "الصحيحين" ليسوا في مرتبة واحدة في ذلك، بل هم على مراتب: - ثم ذكرهم على ثلاث مراتب -. ج- وذهب بعضهم إلى التوقف بناءً على أن بعض الأئمة يُعَلِّلُون أحاديث فيهما أو في أحدهما بتدليس رواتها: قال الحافظ ابن حجر في "النكت" (٢/ ٦٣٥ - ٦٣٦): وتوقف في ذلك من المتأخرين الإمام صدر الدين ابن المُرَحَّل، فقال: أنَّ في النَّفس من هذا الاستثناء غُصَّة، لأنها دعوى لا دليل عليها، لا سيما أنا قد وجدنا كثيرًا من الحُفَّاظ يُعَلِّلُون أحاديث وقعت في "الصحيحين" أو أحدهما بتدليس رواتها … ، ثُمَّ قال: وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجاج المزي، قال: وسألته عن ما وقع في "الصحيحين" من حديث المُدَلِّس مُعَنْعَنًا، هل نقول: أنهما اطلعا على اتصالها؟ فقال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما؛ وإلا ففيهما أحاديث من رواية المُدَلِّسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح. قلتُ: وعندي - والله أعلم - أنَّ الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، بقبول عنعنة المُدَلِّس التي في "الصحيحين"، تحسينًا للظن بهما، وللاعتبارات التي صَرَّح بها أصحاب هذا القول - السالفة الذكر -؛ ولعلَّ مِمَّا يُؤيد ذلك: أنَّ من ضمن الاعتبارات التي قبل بها العلماء رواية المُدَلِّس بالعنعنة: رواية شعبة عن الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة، فهي محمولة على السَّمَاع ولو كانت بالعَنْعَنَة - كما صَرَّح شعبة بذلك، يُنظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (١/ ١٥١)، "النكت" لابن حجر (٢/ ٦٣٠ - ٦٣١) -؛ بل وذهب البعض إلى أنَّ رواية شعبة عن أي مُدَلِّس فَعَنْعَنَتُه محمولة على السماع - يُنظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (١/ ١٦٢ و ١٦٦)، "النكت" لابن حجر (١/ ٢٥٩ و ٢/ ٦٣٠)، "روايات المُدَلِّسين في صحيح مسلم" (ص/٦٩ - ٧٠) -. فهنا بمجرد أن أخبر شعبة بأنَّه لا يأخذ عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما صَرَّحوا فيه بالسَّماع، خاصة من صَرَّح بذكر أسمائهم، قبل الأئمة منه ذلك، وحملوا روايته عن هؤلاء على السَّماع ولو كانت بالعنعنة، وحتى لو لم نقف على تصريحهم بالسَّماع، بل لم نُكَلَّف بالبحث عن ذلك أصلًا. وأيضًا من ضمن تلك الاعتبارات التي قبل بها العلماء رواية المُدَلِّس بالعنعنة: رواية ابن حبَّان خبر المُدَلِّس في "صحيحه" وإن كان مُعَنْعنًا؛ لتصريح ابن حبَّان على اشتراط ذلك في مُقَدِّمة "صحيحه"، فقال: إذا صَحَّ عندي خَبَرٌ مِنْ رواية مُدَلِّس أنه بَيَّن السماع فيه، لا أُبالي أن أذكره من غير بَيَانِ السَّمَاع في خَبَرِه بعد صحته عندي من طريق آخر. يُنظر: "مقدمة صحيح ابن حبَّان" (١/ ١٦٢/ الإحسان). قلتُ: والفرق بين صنيع شُعْبَة وابن حبَّان وبين صنيع صاحبا "الصحيحين": أنَّ شعبة وابن حبَّان ذكر ذلك تنصيصًا، بينما هو عند صاحبي "الصحيحين" مذكور ضمنًا في شرطهما، وهذا يقتضى قبول عنعنة المدلسين فيهما، لأن تلك العنعنة إما أن تكون في الأصول، فهي محمولة على ثبوت السماع تحقيقا لشرط الصحة، وإما أن تكون في المتابعات فتنجبر علة التدليس بروايته من أوجه أخرى، وإن كان هذا ليس كالوقوف على التصريح بالسماع في تلك المواضع، فليس الخبر كالمعاينة - والله أعلم -.