الجمهور بتقديم «صحيح البخاريِّ»، ولم يوجد عن أحدٍ التَّصريح بنقيضه وأمَّا ما نُقِلَ عن أبي عليٍّ النَّيسابوريِّ أنَّه قال: ما تحت أديم السَّماء أصحُّ من كتاب «مسلم»؛ فلم يصرِّح بكونه أصحَّ من «صحيح البخاريِّ»؛ لأنَّه إنَّما نفى وجود كتابٍ أصحَّ من كتاب «مسلمٍ»؛ إذ المنفيُّ إنَّما هو ما تقتضيه صيغة «أَفْعَلَ» من زيادة صحَّةٍ في كتابٍ شارك كتاب «مسلم» في الصِّحَّة، يمتاز بتلك الزِّيادة عليه، ولم ينفِ المساواة. وكذلك ما نُقِلَ عن بعض المغاربة: أنَّه فضَّل «صحيح مسلمٍ» على «صحيح البخاريِّ»؛ فذلك فيما يرجع إلى حسن السِّياق، وجودة الوضع والتَّرتيب، ولم يُفصِح أحدٌ بأنَّ ذلك راجعٌ إلى الأصحِّيَّة، ولو صرَّحوا به؛ لردَّ عليهم شاهد الوجود، فالصِّفات التي تدور عليها
أنَّ الذي اخترناه هو الصحيح؛ لأن ظنَّ مَن هو معصومٌ من الخطأ لا يُخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، وقد قال إمام الحرمين: لو حلفَ إنسانٌ بطلاق امرأته أنَّ ما في الصحيحين ممَّا حكما بصحته من قول النبي ﷺ لما ألزمته الطلاق؛ لإجماع علماء المسلمين على صحته. قال: ولو قال قائلٌ: إنَّه لا يحنث ولو لم يُجْمِعْ المسلمون على صحتهما؛ للشك في الحنث فإنَّه لو حلفَ بذلك في حديث ليس هذه صفته لم يحنث وإن كان رواته فُساقًا، فالجوابُ: أنَّ المُضاف إلى الإجماعِ هو القطع بعدم الحنث ظاهرًا وباطنًا، وأمَّا عند الشك فعدم الحنث محكوم به ظاهرًا مع احتمال وجوده باطنًا حتى تُستحب الرجعة. انتهى.
قال البُلقيني: وقد نُقل مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية، كأبي حامد الإِسْفَرَاييني والقاضي أبي الطيب وأبي إسحاق الشِّيْرَازي وعن السَّرَخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وابن الخَطَّاب وغيره من الحنابلة، وأكثرِ أهل الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبةً، ومذهب السَّلف عامَّةً، بل بالغَ ابن طاهر المقدسي فألحق بهما ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.
وقيل: يفيدُ الظن ما لم يتواترْ، كحديث غيرهما، وأيده النووي في «شرح مسلم» قال: وتلقي الأمة بالقبول لحديثهما إنَّما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقفٍ على النظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يُعمل به حتى ينظر فيه وتوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنَّه كلامه ﷺ. انتهى.
ورَدَّهُ شيخُ الإسلام بأنَّ الخبر المحتف بالقرائن يُفيد العلم خلافًا لمن أبى ذلك، وما أخرجه الشيخان مما لم يبلغ عدد التواتر قد احتف بقرينة جلالتهما في هذا الشأن، وتَقَدُّمِهِما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجردِ كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، قال: وما قيل مِن أنَّهم إنَّما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحته ممنوع؛ لأنَّهم اتفقوا على وجوب العمل بكل ما صحَّ ولو لم يخرجاه، فلم يبق للصحيحين في هذا مزيةٌ، والإجماع حاصل على أنَّ لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة. انتهى.
قال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوَّلَ عليه وأرشدَ إليه. انتهى. وقال الحافظ السيوطي: وهو الذي أختارهُ ولا أعتقدُ سواه. انتهى.
واستثني من المقطوع بصحته فيهما ما تُكُلِّمَ فيه من أحاديثهما وعدة ذلك مئتان وعشرون حديثًا اشتركا في اثنين وثلاثين، واختصَّ البخاري بثمانين إلَّا اثنين ومسلم بمئة، وسيأتي للشارح كلام في ذلك قريبًا.
قوله: (بِتَقْدِيْمِ صَحِيْحِ البُخَارِي)؛ أي: فهو أصحُّ من مُسلم عند الجمهور؛ أي: المُتَّصِل فيه دونَ التعليق والتراجم، وأكثرُ فوائدَ لما فيه من الاستنباطات الفقهية والنُّكت الحكمية وغير ذلك؛ ولأنَّه أشدُّ اتصالًا وأتقنُ رجالًا كما سيبينه الشارح.
قوله: (عَنْ أَبِي عَلِي النَّيْسَابُوْرِي) هو شيخُ الحاكم.
قوله: (وَلَمْ يَنْفِ المُسَاوَاةَ)؛ أي: فيكون من باب قوله ﷺ: «مَا أظَّلَت الخَضْرَاءُ وَلَاْ أَقَلَّت الغَبْرَاءُ أَصْدَقُ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» هذا لا يقتضي أنَّه أصدقُ من جميع الصحابة، ولا من الصِّديق بل نفى أن يكون منهم أصدقُ منه، فيكون فيهم مَن يساويه.
وممَّا يدلُّ على أن عُرْفَهُم من ذلك الزمان ماشٍ على قانونِ اللغة: أنَّ أحمد ابن حنبل قال: ما بالبصرةِ أعلمُ -أو قال: أثبت- من بِشْرِ بن الفضل، أما مثله فعسى.
ومع ذلك فإنَّ هذا القول قد انفردَ به أبو علي المذكور فلا يُصادم إجماع الجمهور، مع اتفاق العلماء على أنَّ البخاري كان أجلَّ من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث، وأنَّ مسلمًا تلميذه ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى هجرَ من أجله شيخه محمد بن يحيى الذُّهلي في قصة شهيرةٍ.
وقال الدَّارقُطْنِي: لولا البخاري ما راحَ مسلم ولا جاءَ، وهذا كنايةٌ عن عدمِ التصرف في صناعة الحديث.
وقال الحاكم: رحم الله البخاري فإنَّه أَلَّفَ الأصولَ؛ -يعني: أصول الأحكام من الأحاديث- وبَيَّنَ للناسِ، وكلُّ مَن عملَ بعده فإنَّما أخذ من كتابه، كمسلم بن الحجاج. انتهى.
وعن الدَّارقُطْنِي أيضًا: وأيُّ شيءٍ صنع مسلم؟! إنَّما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مُستخرجًا وزاد فيه زيادات.
قوله: (عَنْ بَعْضِ المَغَارِبَةِ)، قيلَ: هو ابن حزم.
قوله: (فَذَلِكَ فِيْمَا يَرْجِعُ … ) إلى آخره، نقل عنه نفسه أنَّه علل ذلك بأنَّه لم يسقْ فيه بعد الخطبة إلَّا الحديث السرد؛ أي: فليس ممزوجًا بمثل ما في البخاري.
قوله: (وَجَوْدَةِ الوَضْعِ … ) إلى آخره؛ أي: لأنَّه يجمعُ طُرق الحديث في مكان واحدٍ بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة، فَسَهُلَ تناوله بخلاف البخاري، فإنَّه قطَّعَها في الأبواب بسبب