والمُركَّب: كإبدال نحو «سالمٍ» بـ «نافعٍ» -كما مرَّ -، أو الذي رُكِّب إسناده لمتنٍ آخر، ومتنه لإسناد متنٍ آخر.
والمنقلب: الذي ينقلب بعض لفظه على الرَّاوي فيتغيَّر معناه؛ كحديث البخاريِّ في باب: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة ﵁ رفعه: «اختصمت الجنَّة والنَّار إلى ربِّهما … » الحديث [خ¦٧٤٤٩]. وفيه: «أنَّه ينشئ للنَّار خَلقًا»، صوابه كما رواه في موضعٍ آخر من طريق عبد الرَّزَّاق عن هَمَّامٍ عن أبي هريرة بلفظ: «فأمَّا الجنَّة فينشئ الله لها خلقًا»، فسبق لفظ الرَّاوي من «الجنَّة» إلى «النَّار»، وصار منقلبًا. ولذا جزم ابن القيِّم بأنَّه غلطٌ، ومال إليه البُلقينيُّ حيث أنكر هذه الرِّواية، واحتجَّ بقوله: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
والمُدَبَّج -بالموحدة والجيم-: رواية القرينين المتقاربين في السِّنِّ والإسناد، أحدهما عن الآخر، كرواية كلٍّ من أبي هريرة وعائشة عن الآخر، وكرواية التَّابعيِّ عن تابعيٍّ مثله؛ كالزُّهريِّ وعمر بن عبد العزيز، وكذا مَنْ دونهما.
فصوابُ سنده كذا … إلى آخره، وحديثه كذا (و) كذا، وأما حديثُكَ الثاني فهو كذا، والثالث كذا، على الولاء حتى أتم العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى سنده، وكلَّ سند إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك فردَّ متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقرَّ له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
قوله: (والمُرَكَّبُ … ) إلى آخره، الظاهر أنَّه لا وجهَ لإفراده باسم مخصوص إذ هو عينُ المقلوب في السند، ومع ذلك فلو جعلوه ما تركبَ من حديثين كما تقدَّم في أنواع التدليس لكان له نصيب ظاهرٌ من مسماه، وقليلًا ما ترى من ذَكره وأظنه لذلك.
قوله: (وَالمُنْقَلِبُ) يظهرُ على تمثيل الشارح أنَّه لا فرق بينه وبين المقلوب في المتن، وقَلَّ من ذكره أيضًا.
قوله: («اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إلى رَبِّهِمَا») إمَّا مجازٌ عن حالهما المُشابه للمخاصمةِ، أو حقيقةٌ بأن يخلق الله فيهما الحياة والنُّطق، أو يخلق القول في جزء منهما؛ لأنَّه لا يُشترط عقلًا في الأصوات أن يكون محلها حَيًّا على الراجح، أو أنَّ ذلك بلسانِ الحال، واختصامهما هو افتخار إحداهما على الأخرى بمن يَسكنها فيظن كل منهما أنها آثرُ عند الله بمن يسكنها.
قوله: (الحَدِيْثَ) بقيته: «فقالت الْجَنَّةُ: يا رَبِّ ما لها لَا يَدْخُلُهَا إلَّا ضُعَفَاءُ الناس وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فقال الله تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وقال لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ من أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قال: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فإن اللَّهَ لَا يَظْلِمُ من خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ من يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فيها، فَتَقُوْلُ: هل من مَزِيدٍ ثَلَاثًا، حتى يَضَعَ فيها قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ».
قال الشارح هناك في القَدَم: هو ما يقدمه لها من أهل العذاب أو ثمَّةَ مخلوقٌ اسمه القدم، أو هو عبارة عن زجرها وتسكينها كما يقال وضعته تحت قدمي. انتهى.
قوله: (فِيْ مَوْضِعٍ آخَرَ)؛ أي: في تفسير سورة ﴿ق﴾ وكذا في صحيح مسلم.
قوله: (بِأَنَّهُ غَلَطٌ) احتجَّ على ذلك بأنَّ الله أخبرَ بأنَّ النار تمتلئ من إبليس وأتباعه في قوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ الآية [ص: ٨٥].
قوله: (﴿وَلَاْ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩])، فيه: أنَّ له أن يعذب مَن لم يكلفه بعبادته في الدنيا؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ ملكه، فلو عذَّبهم لكان غير ظالم لهم، قال البُلقيني: وحَمْلُه على أحجار تُلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يُعذب بغير ذنب. انتهى.
قال في «الفتح»: ويُمكن التزام أن يكونوا من ذوي الأرواح لكن لا يُعذبون كما في الجزية، ويُحتمل أن يُراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، فعَبَّرَ عن ابتداءِ الإدخال بالإنشاء فهو إنشاء إدخال لا إنشاءٌ بمعنى ابتداء خلق بدليل قوله: «فَيُلْقَوْنَ فيها: ﴿وَتَقُوُلُ هل من مَزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]»، وفي «الكواكب»: الإنشاء للِجَنَّة لا ينافي الإنشاء للنار والله يفعل ما يشاء، فلا حاجة إلى الحمل على الوهم، ثم حاصلُ الجواب منه تعالى أنَّه لا فضل لأحدكما على الأخرى من طريق مَن يسكنهما.
قوله: (وَالمُدَبَّجُ بالمُوَحَّدَةِ)؛ أي: المفتوحة المُشَدَّدة بعد الميم المضمومة والمُهملة المفتوحة، وأوَّلُ من سماهُ بذلك الدَّارقُطني كما قاله العراقي، قيل: سُمي بذلك لحُسنه؛ لأنَّ المدبج لغةً المُزَيَّن، والرواية كذلك لنكتة يعدل فيها عن العلو إلى المساواة أو النزول، فيحصل للإسناد بذلك تزيين، وقيل لنزول الإسناد فيكون ذَمًّا من قولهم: رجل مُدبَّج قبيح الوجه، والذي جزم به في «شرح النخبة» أنَّه مأخوذٌ من ديباجتي الوجه، وهما الخَدَّان لتساويهما وتقابلهما.
قلت: وهذا هو الظاهر على ما ذهب إليه الجمهور، وجرى عليه الشارح من أنَّه رواية القرينين … إلى آخره، أما على ما جرى عليه الدَّارقطني من أنَّهُ لا يتقيدُ بالقرينين بل كلُّ اثنين روى كل منهما عن الآخر، فيُحتمل أنَّه من قبيل الأول وهو الظاهر، أو الثاني؛ لأنَّ العدول عن العُلو قبحٌ ما.
قوله: (رِوَايَةُ القَرِيْنَيْنِ)؛ أي: مرويُّ المتقارنين من الصحابة أو التابعين أو أتباعهم أو أتباع أتباعهم وهكذا.
قوله: (وَالإِسْنَادِ)؛ أي: الأخذُ عن الشيوخ، والجمعُ في المساواة بين السنِّ والسند أغلبي، وقد يُكتفى بالتساوي في السند وإن تفاوتوا في السنِّ، ولا فرقَ بينَ أن تكون الرواية عن القرين بواسطة أو بدونها.
مثالها بدون واسطة في الصحابة: رواية عائشة عن أبي هريرة وبالعكس، وفي التابعين: رواية الزهري عن ابن الزبير وبالعكس، وفي أتباع التابعين رواية مالك عن الأوْزَاعِي وبالعكس، وفي أتباع أتباعهم رواية أحمد ابن حنبل، عن علي بن المَديني وبالعكس، ومثالها بها: أن يروي الليث عن يزيد بن الهاد، عن مالك، ويروي مالك عن يزيد عن الليث.
تنبيه: قد تكون رواية الأقران من غير تدبيجٍ وهي انفرادُ أحدِ القرينين بالرواية عن الآخر، كرواية الأعمش عن التيمي، فالمُدَبَّج أخصُّ من الأقران، فكلُّ مُدبج