بالبصرة، ثمَّ تلاهم كثيرٌ من الأئمَّة في التَّصنيف، كلٌّ على حسب ما سَنَحَ له، وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتَّب على المسانيد، كالإمام أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن رَاهُوْيَه، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وأحمد بن منيعٍ، وأبي خيثمة، والحسن بن سفيان، وأبي بكرٍ البزَّار وغيرهم، ومنهم من رتَّب على العلل؛ بأن يجمع في كلِّ متنٍ طرقَه واختلافَ الرُّواة فيه، بحيث يتَّضح إرسال ما يكون متَّصلًا، أو وقف ما يكون مرفوعًا أو غير ذلك، ومنهم من رتَّب على الأبواب الفقهيَّة وغيرها، ونوَّعه أنواعًا، وجمع ما ورد في كلِّ نوعٍ وفي كلِّ حكمٍ إثباتًا ونفيًا في بابٍ فبابٍ، بحيث يتميَّز ما يدخل في الصَّوم مثلًا عمَّا يتعلَّق بالصَّلاة، وأهل هذه الطَّريقة منهم من تقيَّد بالصَّحيح كالشَّيخين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيَّد بذلك كباقي الكتب السِّتَّة، وكان أوَّلَ من صنَّف في الصَّحيح: محمَّدُ بن إسماعيلَ البخاريُّ، أسكننا الله تعالى معه في بحبوحة جِنانه بفضله السَّاري، ومنهم المقتصر على الأحاديث المتضمِّنة للتَّرغيب والتَّرهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط؛ كالبغويِّ في «مصابيحه»، واللُّؤلؤيِّ في «مشكاته».
وبالجملة: فقد كَثُرت في هذا الشَّأن التَّصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التَّآليف، واتَّسعت دائرة الرِّواية في المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السُّنَّة لكلِّ طالب.
الفصل الثَّالث
في نَُبذةٍ لطيفةٍ جامعةٍ لفرائد فوائد مصطلح الحديث عند أهله، وتقسيم أنواعه، وكيفيَّة تحمُّله وأدائه ونقله، ممَّا لا بدَّ للخائض
ثم قال بعد ذلك بأسطر: قال في فتح الباري: يُستفاد من ذلك ابتداء تدوين الحديث النَّبويِّ، ثمَّ أفاد أنَّ أوَّل من دوَّنه بأمر عمر ابن عبد العزيز ابنُ شهاب الزُّهريُّ. انتهى.
أقول: فلعلَّ ابن شهاب أوَّلُ مَن جمع على الإطلاق، ثمَّ تبعه هؤلاء أو أنَّه جَمع جمعًا مطلقًا من غير ترتيب على أبواب، وهؤلاء جمعوا مع التَّبويب فيكون هو أوَّلُ من جمع مطلقًا وأولئك أوَّل من جمع مبوَّبًا.
قوله: (مَا سَنَحَ لَهُ) بمهملتين؛ أي: عَرَضَ.
قوله: (على المسانيد) جمع مُسند، وهو لغةً اسم مفعول من السَّند، واصطلاحًا: ما اتَّصل إسناده من راويه إليه ﷺ. يُطلق على الكتاب الَّذي جمع فيه ما أسنده الصَّحابيُّ؛ -أي: رواه- والمعنى أنَّ منهم من جَعل كتابه مرتَّبًا بحسب ما يذكره من أسانيد الصحابة كـ «مسند الإمام أحمد» فإنَّه كتاب ذَكر فيه مسانيد الصحابة كذلك فيقول فيه: مسند أبي بكر؛ أي: ما رواه أبو بكر عن النَّبيِّ ﷺ، ويذكر أحاديثه في محلٍّ واحد، فإذا فرغ منها يقول: مسند عمر، وهكذا فيذكر جميع الأحاديث المسندة إلى مثل الصِّدِّيق ولا يفصل بينها بحديث مسند إلى صحابيٍّ آخر.
قوله: (بِحَيْثُ يَتَّضِحُ إِرْسَالُ مَا يَكُوْنُ مُتَّصِلًا)؛ أي: بحسب الظَّاهر، وكذا يُقال فيما بعده وذلك كأن يقول: حدَّثنا فلان عن فلان عن فلان التَّابعيِّ عن النَّبيِّ ﷺ بكذا، ويُسقط الصَّحابيَّ ويسوق طرقًا لهذا الحديث كلَّها مُسقطةٌ للصَّحابيِّ، ثمَّ يسوق طريقًا واحدًا فيه الوصل فيُعلَم بذلك وبقرائن أخر تقوم عندهم أنَّ وصله غلطٌ وأنَّه مرسل، وكذا يُقال في وقف المرفوع ونحو ذلك.
قوله: (وغيرها)؛ أي: كـ «الموطأ» و «صحيح سعيد بن السَّكن» و «المنتقى» لابن الجارود.
وقوله: (وَمِنْهُم مَنْ لَمْ يَتَقيّدْ بِذَلِكَ)؛ أي: بالصَّحيح، بل ذكر معه الحسن.
وقوله: (كَبَاقِي الكُتُب السِّتَّةِ) هي «سنن: أبي داود والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وابن ماجه» وهم على هذا التَّرتيب في الصِّحة. و (ماجه) ونحوه كسَنْدَه ومَنْدَه ومَرْدَوَيْه وابن رَاهُوْيَه أعلامٌ أعجميةٌ وُضعت على السكون وصلًا ووقفًا، وتُعرب بحركات مقدَّرة على آخرها مَنَعَ من ظهورها اشتغال المحل؛ لسكون الحكاية، لكن حركة الجرِّ فتحة نائبة عن الكسرة؛ لمنعها من الصَّرف للعلمية والعُجمة، والمراد بالحكاية حكاية حال وضعها.
واعلم أنَّ المراد بـ «سنن النَّسائيِّ» (١) المعدودة في الكتب السِّتَّة الصَّحيحة هي الصُّغرى؛ فإنَّ له اثنتين كما صرَّح بذلك التَّاج ابن السُّبكيُّ: ولمَّا صنَّف الكبرى أهداها لأمير الرَّملة فقال له: كلُّ ما فيها صحيح؟ فقال: لا، فقال: ميِّز لي الصَّحيح من غيره، فصنَّف له الصُّغرى.
تنبيه: المراد بكون نحو «الموطَّأ» مُتقيِّدًا بالصَّحيح على ما قرَّرنا به كلام الشَّارح أنَّه لا يُخرج إلَّا الصَّحيح عنده وعند من يُقلِّده على ما يقتضيه نظره من الاحتجاج بالمُرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشَّرط الَّذي ذكره في تعريف الصَّحيح، كما قاله شيخ الإسلام فلا ينافي ما قاله العراقيُّ مِن أنَّ مالكًا لم يُفْرِد الصَّحيح بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث لا تُعرف كما ذكره ابن عبد البرِّ. انتهى.
والبخاريّ: وإن وجد مثل ذلك في كتابه في مواضع إلَّا أنَّها مُتَّصلة في مواضع أخر منه.
قوله: (أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيْحِ … ) إلى آخره، اعترضَ بأنَّ مالكًا أوَّل من صنَّف الصَّحيح، وتلاه أحمد ابن حنبل، وتلاه الدَّارميُّ، وأُجيب بأنَّ المراد الصَّحيح المجرَّد؛ أي: الَّذي لم يُذكر معه غيره، أو الصَّحيح المُجمع على صحَّته.
والسَّبب في تصنيف البخاريِّ صحيحَه ما رواه عنه إبراهيم بن معقل النَّسفيُّ قال: كنَّا عند إسحاق ابن رَاهُوْيَه فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سُنَّة النَّبيِّ ﷺ، قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصَّحيح. وعنه أيضًا قال: رأيتُ النَّبيَّ ﷺ وكأنَّني واقفٌ بين يديه وبيدي مروحة أذبُّ عنه، فسألت بعض المعبِّرين فقال لي: أنت تذُبُّ عنه الكذبَ، فهو الَّذي حملني على إخراج الجامع الصَّحيح، قال: وألَّفته في بضعَ عشرة سنة.
قوله: (بَحْبُوحَةِ جِنَانِه) في «القاموس» وبحبوحة المكان: وسطه. انتهى.
قوله: (لِلتَّرْغِيب)؛ أي: الحمل على الرَّغبة فيما عند الله تعالى بذكر فضائل الأعمال، وما يتضمَّن سعة رحمته تعالى وعفوه ونحو ذلك (والتَّرهيب) التَّخويف من عِقَابِهِ بذكر ما هو بضدِّ ذلك من موجبات نقمته وغضبه.
قوله: (مَنَاهِج) جمع منهاج، وهو كالمنهج: الطَّريق الواضح.
(الفصل الثَّالث)
قوله: (فِي نَُبْذَةٍ) هي بفتح النُّون وضَمِّهَا: النَّاحية والشَّيء اليسير، والمراد هنا الثَّاني.
قوله: (لِفَرَائِدِ فَوَائِدِ) من إضافةِ المشبَّه به للمشبَّه كما لا يخفى، والفرائد جمع فريدة وهي اللُّؤلؤة العظيمة الَّتي تنفرد لعظمها وظرافتها في ظرف على حدة، فعيلة بمعنى مفعولة.
قوله: (مُصْطَلَح الحَدِيْث) بفتح اللَّام؛ أي: ما اصطلح
(١) تعليق موسوعة البخاري: في المطبوع «سنن أبي داود»، وهو سبق قلم.