للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التخريج والتصنيف، بل هو الذي يعمل له خُطَب كُتُبه ويسميها له، وصار الهيثمى لشدّة ممارسته أَكثر استحضارًا للمتون من شيخه، حتى يَظُن من لا خِبْرة له أَنه أَحفظ منه، وليس كذلك لأَن الحفظ (١) المعرفة.

وولى شيخنا قضاء المدينة سنة ثمانٍ وثمانين فأَقام بها نحو ثلاث سنين ثم سكن القاهرة، وأَنجب ولده قاضي القضاة وليّ الدين.

لازمْتُ شيخنا عشر سنين تخلَّل في أَثنائها رحلاتى إلى الشام وغيرها، وقرأْتُ عليه كثيرًا من المسانيد والأَجزاء، وبحثْتُ عليه شرحه على منظومته وغير ذلك، وشهد لي بالحفظ في كثير من المواطن وكتب لي خطَّه بذلك مرارًا.

وسئل عند موته: "مَن بقى مِن الحفَّاظ؟ "، فبدأ بي، وثنّى بولده، وثلَّث بالشيخ نور الدين (٢)؛ وكان سبب ذلك ما أَشرْت إليه من إكثاري الممارسة لأَن ولده تشاغل بفنون غير الحديث، والشيخَ نورَ الدين كان يدرى منه فنًّا واحدا؛ وكان السائل للشيخ من ذلك: القاضي كمالُ الدين بنُ العرام، ثم سأَله الشيخ نور الدين الرشيد - على ما أَخبرني بذلك - بعد ذلك، فقال: "في فلان الكفاية"، وذكر وذكر أَنَّه عناني، وصرّح بذلك.

مات الشيخ عقب خروجه من الحمّام في ثامن شعبان وله إحدى وثمانون سنة سنة، نظيرَ عمر شيخ الإسلام سراج الدين، وفى ذلك أَقول في المرثية:

لا ينْقَضِي عَجَبي من وفقِ عُمْرِهما … العامُ كالعام، حتى الشهْرُ كالشهر

عاشا ثمانين عامًا بعْدَه سنةٌ … ورُبعَ عامٍ، سوي نقْصٍ لمعتبر


(١) أمامها في هامش هـ بخط البقاعي "أي الملكة الحاصلة في نفس العالم".
(٢) يعني نور الدين الهيثمي.