بغير هذا بل وقتل في ذلك بعض رجال الحديث، وإذا أراد الله بالأمير شراً جعل له وزير سوء فكان عامل الواثق أحمد بن أبي دؤاد أحد رءوس الاعتزال الذي خذله أحد رجال الحديث في مناظرة ألجمته عن التمادي في الباطل وأرجعت الواثق عن رأيه بعد اقتناعه بوجهة نظر شيخ المحدثين وقتذاك.
وكان نصر الله للمحدثين على يد المتوكل بن المعتصم الذي استقدم المحدثين، وأجزل عطاياهم وأطلق ألسنتهم، فتحدثوا بأحاديث الصفات والرؤيا، فاستراح الناس لهذا الخليفة الذي أحيا السنّة وأمات البدعة١.
ولكن أقطاب الاعتزال لم تهدأ نفوسهم فما زالوا يطلقون ألسنتهم بالسوء ويرمونهم بالنقائص والعيوب، وظهرت الفرق على الساحة الإسلامية فأطل الخوارج برءوسهم يتأولون الأحاديث التي ينتصرون بها لمذهبهم، ومن عجب أن زعماء الاستشراق ينقلون هذه الخلافات المذهبية دون أن يمحوها لأنهم يحققون بذلك غرضاً أدناً في نفوسهم وهو الطعن على الإسلام ورجاله.
والحق أن رجال الحديث- رضي الله عنهم- كانوا على طريقة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يحتاطون لأمر دينهم ويتشددون في رواية السنة، ويقفون مع ظواهر النصوص بمعنى إقرار المحكم والوقوف عند المتشابه حتى لا يجرهم ذلك إلى تأويلات ربما تسرب إليها الفساد فيدخلون تحت قوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران: ٧] .
وقد وجد منهم في هذا العصر أئمة كبار وحفاظ عظام عرفوا الأحاديث وميزوا بين الصحيح والسقيم ونقدوا الرواة ووقفوا على أحوالهم، ووضعوهم في أماكنهم ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن راهُويه وعليّ بن المديني وغيرهم.
والذي لا نستطع أن ننكره أنه قد يجتمع على مائدة الكرام قول لئام لم يدعوا إليها ولكنهم يجلسون متطفلين عليها فيزاحمون أصحاب الدعوة، وقد يدعون أنهم أقارب أصحاب الوليمة وقد يبالغون في دعواهم فيقولون بأنهم أصحابها. ومن هؤلاء من تطفلوا على مائدة المحدثين فجلسوا عليها دون رواية أو دراية، فكانوا وصمة عار في جبين المحدثين كالقصاص الملفقين والمرتزقين المتكسبين، والجهلة بأحكام الشرع والدين فيبثون الغرائب والمناكير فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وإنما سقت لك أيها القارىء الكريم هذا المثل من أدعياء الحديث الذين ضاق بهم ذرعاً
١ انظر: "البداية والنهاية" ١٠/٢٧٢ وما بعدها- "تاريخ الخلفاء" للسيوطي/٢٠٤- "تاريخ الأمم الإسلامية" للخضري/٢٧٩.