للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ترتب على إخراج العمل من حقيقة الإيمان، وعزل الحياة الدنيا عن الدين والتصور الجبري للقدر، أمور عظيمة منها: ترك الجهاد في سبيل الله، وعدم السعي في عمارة الأرض بمنهج الله تعالى، وترك المجالات الحيوية في الأمة؛ كالسياسة والاقتصاد والفكر والثقافة وبناء المجتمع ومعالجة القضايا المستجدة، ما أدّى إلى الاستسلام التام للاستبداد والظلم والطغيان، وغيرها من النتائج المؤلمة (١).

وبالجملة فإن هؤلاء حينما اعتقدوا بأن العبد ليس مسؤولاً عن أفعاله-حسب فهمهم-، أخرجوا العمل عن حقيقة الإيمان، ليقدموا العذر لأنفسهم عن تبعية العمل والمسؤولية عنه (٢)، فكان للجبر تأثيرٌ واضحٌ على مسائل الإيمان، لدرجة أنهم يجعلون كل أفعالهم طاعات -كما سبق-.

- سادساً: دعواهم استحالة (الجمع بين النقيضين):

هذه الضرورة العقلية عندهم انبنى عليها القول: بامتناع التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان، ومقصودهم بالنقيضين هنا اجتماع شعب الإيمان وشعب الكفر في الشخص الواحد، وهذا ممتنع عندهم، بناء على أن التقابل بين الإيمان والكفر هو من باب التقابل بين السلب والإيجاب، فاستناداً لهذه الضرورة العقلية أحالت الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة وقوع التفاوت في الإيمان.

فالخوارج التزمت بهذا الأصل فكفروا مرتكب الكبيرة وذلك لقولهم بدخول العمل في الإيمان مع التزامهم بدعوى استحالة التفاوت، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك: أن سلبوا الإيمان عن صاحب الكبيرة، وأثبتوا له ضده وهو الكفر؛ لأنه لا واسطة بين الإيمان والكفر.

ثم لما نبغت المعتزلة بعد ظهور فرقة الخوارج، استظهرت صحة ذاك الأصل الذي استندت إليه الخوارج في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة -وهو دعوى استحالة التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان- لكنها أرادت؛ لما رأت تنادي أهل السنة فيما بينهم بإنكار بدعة الخوارج، والتشنيع عليهم، ومخالفتهم للضرورة الشرعية المستقرة بدلائل الكتاب والسنة،


(١) ينظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة، لعلي بن بخيت الزهراني (ص ٤٦٩).
(٢) وما ذلك إلا ليسلموا من مسائل [الأسماء والأحكام] التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا.

<<  <   >  >>