وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ نَوْعَي الدُّعَاءِ، وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ؛ أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَرْجُونَهُ، وَعِبَادَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَسْأَلَتَهُ. فَالنَّوْعَانِ دَاخِلَانِ فِيهِ.
وَمِن ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠]، فَالدُّعَاءُ يَتَضَمَّنُ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: ٧٣] الْآيَةُ .. وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ دُعَاءَ الْمُشْرِكِينَ لِأَوْثَانِهِمْ فَالْمُرَادُ بِهِ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُتَضَمِّنُ دُعَاءَ الْمَسْألَةِ فَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} يَتَنَاوَلُ نَوْعَي الدُّعَاءِ؛ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، مُتَضَمّنٌ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ، وَلهَذَا أَمَرَ بِإِخْفَائِهِ وَإِسْرَارِهِ.
وَفِي إخْفَاءِ الدُّعَاءِ فَوَائِدُ عَدِيدَة:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ إيمَانًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ.
وثَانِيهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ لَا تُرْفَعُ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُمْ، وَمَن رَفَعَ صَوْتَه لَدَيْهِمْ مَقَتُوهُ، وَللَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ.
وثَالِثُهَا: أَنَّه أَبْلَغُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدُّعَاءِ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ، فَإِنَّ الْخَاشِعَ الذَّلِيلَ إنَّمَا يَسْأَلُ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ ذَلِيلٍ قَد انْكسَرَ قَلْبُهُ، وَذَلَّتْ جَوَارِحُهُ، وَخَشَعَ صَوْتُهُ، حَتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ تَبْلُغُ ذِلَّتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إلَى أَنْ يَنْكَسِرَ لِسَانُهُ، فَلَا يُطَاوِعُهُ بِالنُّطْقِ، وَقَلْبُهُ يَسْأَلُ طَالِبًا مُبْتَهِلًا، وَلسَانُهُ لِشِدَّةِ ذِلَّتِهِ سَاكِتًا، وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَأتِي مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَصْلًا.
ورَابِعُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ.
وخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى الذّلَّةِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِن رَفْعَ الصَّوْتِ يُفَرِّقُهُ، فَكُلَّمَا خَفَضَ صَوْتَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَجْرِيدِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute