للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نساري من السري وهو السير ليلا، يقول: إلى متى نسري مع النجم في الليل وهو لا يسري على خف كالإبل ولا على قدم كالناس! فهو لا يتعب مثلنا ومثل خطايانا، فالمتنبي لا يسأل عن الزمان ولكنه يستبطئ مجيء هذا اليوم الذي يصل فيه إلى هدفه ويُحقق بغيته، وقد يراد من الاستفهام معنى الاستبعاد، وهو عد الشيء بعيدًا، والفرق بينه وبين الاستبطاء أن الاستبعاد متعلقه غير متوقع، أما الاستبطاء فمتعلقه متوقع، والمستفهِم يتطلع إلى وقوعه ومجيئه، ومن الاستفهام الذي جاء مفيدًا الاستبعاد قوله تعالى: {قَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: ٢، ٣) فالكفرة يستبعدون البعث وينكرون وقوعه، وقد عبروا عن هذا الاستبعاد بصيغة الاستفهام التي طوي فيها البعث المستفهم عنه، والتقدير: أنُبعث إذا كنا ترابًا ذلك رجع بعيد! وكأنهم يريدون أن يظل البعث هكذا سؤالا مثارًا وتعجبًا مقامًا، يسأله كل كافر ويتعجب من وقوعه كل جاحد عنيد. ومنه قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} (الدخان: ١٣، ١٤) إلى غير ذلك.

ومن المعاني التي يفيدها الاستفهام: التحسر والتألم، وذلك في مقام يظهر فيه المستفهم حزنه وتألمه وتحسره على ما فاته، تأمل قول حافظ إبراهيم في وصف حريق:

سائلوا الليل عنهم والنهار ... كيف باتت نساؤهم والعذارى

ويتحسر ويتفجع لهؤلاء المنكوبين، الذين ساءت أحوالهم وأتى الحريق على ما يملكون من متاع ومأوى، فباتوا هم وأهلهم في العراء، وقد لجأ الشاعر إلى أسلوب الاستفهام ليُلهب الناس ويثير حميتهم لمساعدة المصاب لتبديد ما ألمّ به

<<  <   >  >>