والسر البلاغي وراء التعبير بصيغة النهي في مقام الالتماس في الآية الكريمة هو إظهار حرص هارون على ترقيق قلب أخيه، ورغبته القوية الأصيلة في العفو والتسامح، وقد كان له عذر.
ومن ذلك قول المتنبي في سيف الدولة:
فلا تبلغاه ما أقول فإنه ... شجاع متى يذكر له الطعن يشتقي
فهو يلتمس من صاحبيه أن يكتمَا عن سيف الدولة ما يقول في وصف شجاعته وحسن بلائه في الحروب. وقد عبر بأسلوب النهي في هذا المقام، مقام الالتماس؛ إظهارًا لشدة حرصه على كتمان هذا الأمر عن سيف الدولة، ففي ذلك ما فيه من تهويل وتفخيم لشجاعته وقوة فتكه بأعدائه.
ويأتي النهي لإفادة النصح والإرشاد: كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(المائدة: ١٠١). فليس المراد بالنهي عن السؤال في الآية الكريمة الإلزام وطلب الكف، وإنما أريد به النصح والإرشاد، وقد جاء بصيغة النهي؛ رغبةً في الاستجابة والامتثال، ومنه قول أبي العلاء:
ولا تجلس إلى أهل الدنايا ... فإن خلائق السفهاء تعدي
فهو ينصح مخاطبه ويرشده إلى الابتعاد عن السفهاء، وأهل الدنايا. قد عبر بصيغة النهي؛ لبيان رغبته وحرصه على أن يمتثل المخاطب ويستجيب لنصحه وإرشاده.
ويأتي النهي كذلك للحث على الفعل: كما في قول الخنساء -وقد مضى-:
أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟
فهي تحث عينيها على البكاء، وأن تجودَا بالدمع وألا تبخلَا به؛ فإنهما تبكيان صخر الندى. فالتعبير بالأمر والنهي في هذا المقام يظهر شدة حزنها، ورغبتها القوية في أن يتحقق ما تريده، وتفيض عيناها بالبكاء؛ وفاءً لحق هذا المقام.