ثم اقرأ قول الله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(الأنفال: ٣١). أي: لو نشاء أن نقول مثل هذا لقلناه. وقوله -عز وجل-: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الأنعام: ٣٩). أي: مَن يشأ إضلاله يضلله، ومن يشأ أن يجعله على صراط مستقيم يجعله، فلن يخفى عليك ما في حذف المفعول من دقة وجمال؛ مردهما إلى ما يتركه الإيضاح بعد الإبهام في النفس من وقع طيب وأثر حسن، هذا إذا لم يكن في تعلق فعل المشيئة أو الإرادة بالمفعول به غرابة، وذلك بأن يكون المفعول من الأمور العجيبة الغريبة، أو من الأمور البعيدة التي نادرًا ما تقع. فإن كان الأمر كذلك وجب ذِكر المفعول؛ ليتقرر في نفس السامع ويأنس به.
انظر مثلًا إلى قول أبي الهندام الخزاعي في النساء:
قضى وطرًا منك الحبيب المودع ... وحل الذي لا يُستطاع فيدفع
ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته عليه ... ولكن ساحة الصبر أوسعُ
لما كان بكاء الدمع من الأمور العجيبة الغريبة، وكانت إرادة الإنسان بأن يبكي دمًا أعجبَ وأغربَ، فقد ذكره الشاعر؛ ليتقرر في نفس الشاعر ويأنس به؛ لأنه عندئذٍ يكون قد ذكره مرتين؛ مرة مفعولا للمشيئة، ومرة جوابًا للشرط، والشيء إذا كرر فإنه يتقرر في النفس وتأنس به وتسكن إليه، خاصةً وأن غرابة المفعول تقتضي هذا التقرير، ويكون الإنسان مخبِرًا عن عزة نفسه مفتخرًا بعلو مكانته: لو شئت أن أرد على الأمير لرددت، ولو شئتُ أن ألقَى الخليفة كل يوم للقيته، تراه قد ذكر مفعول المشيئة؛ لكونه من الأمور المستبعدة التي تكبرها النفس، ولا تقرها بسهولة. فالأمر إذن يحتاج إلى تقرير وتأكيد؛ ولذا ذكر المفعول، وكرر ذكره ثانيةً في الجواب.