للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الرابع: ليس في منعه من التقليد تكليف للأمة بما لا يطيقون، إنما مراده أن يبذل كل أحد وسعه في معرفة الحق. وعلى الجاهل الذي لا يفهم ألفاظ الكتاب والسنة أن يسأل من يفطن ذلك، وحينها يكون السائل عاملا بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول، ويرتفع عنه وصف التقليد المذموم.

قال الشوكاني: (على أني أقول بعد هذا (١) إن من كان عاطلا عن العلوم الواجب عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التي يجب عليه من عبادة أو معاملة، وسائر ما يحدث له؛ فيقول لمن يسأله: علمني أصح ما ثبت في ذلك من الأدلة حتى أعمل به، وليس هذا من التقليد في شيء؛ لأنه لم يسأل عن رأيه بل عن روايته، ولكنه لما كان لجهله لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك، فهو عامل بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول) (٢).

ولذا رد الشوكاني قول من قال: لو كان التقليد غير جائز؛ لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف ما لا يطاق؛ فإن الطباع البشرية متفاوتة، وعلى فرض إنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تبطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع بدونها؛ فحينئذ يشتغل الحراث والزراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم وتبقى هذه الأعمال شاغرة معطلة. فرد بقوله: (ويجاب عن هذا التشكيك الفاسد بأنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب هو أمر دون التقليد، وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش، والقاصرون إدراكا وفهما، كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم خير القرون، والذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد علم كل عالم أنهم لم يكونوا مقلدين، ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء، بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله أو بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى؛ فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد؛ فإن تفهم دقائق علم الرأي أصعب من تفهم الرواية بمراحل كثيرة، فما طلبنا من هؤلاء العوام إلا ما هو أخف عليهم مما طلبه منهم الملزمون لهم بالتقليد، وهذا هو الهدى الذي درج عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (٣).


(١) أي قوله: (والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعمل بها المتقدمون والمتأخرون، كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة، أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره، مع البيان لما هو صحيح، ولما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العمل بما كان كذلك من السنة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحدا أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنة … ). البدر الطالع ٦٤٠ وما بعدها.
(٢) البدر الطالع ص ٦٤٣. عند ترجمة محمد بن إبراهيم بن علي المرتضى.
(٣) القول المفيد ص ٣٨، ٣٩.

<<  <   >  >>