[الفقهاء والزواج]
رابعاً: الفقهاء والزواج.
فهم يتحدثون في مبدأ كتاب نكاح عن الزواج وأهميته، فقهاء الحنفية يعقبون العبادات بباب النكاح بعد كتاب الحج، بخلاف المعهود عند الحنابلة حيث يأتي بعد الحج باب الجهاد، ثم بعد ذلك المعاملات، ثم النكاح، أما الحنفية فيوردون النكاح بعد العبادات مباشرة، وعلل ذلك أحد علماء الحنفية وهو الكمال بن الهمام صاحب شرح فتح القدير، قال: وهو أقرب للعبادات، حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة على ما نبين إن شاء الله تعالى، فلذا أولاه العبادات.
ثم ذكر حكمه واختلافهم فيه ورجّح تفضيله على التخلي للعبادة، ثم قال: وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لا فيما يخيل للنفس أنه أفضل نظراً إلى ظاهر عبادة وتوجه، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبياءه إلا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرره على ترك الأفضل مدة حياته.
وهذا كله ذكره بعد أن علل لماذا أعقب صاحب الهدية العبادات بباب النكاح؟ قال: لأنه أفضل أصلاً من التخلي للعبادة، والحاجة إليه آكد، ثم بيّن لماذا قدّمه على الجهاد، قال: إن الجهاد فيه تحصيل الصفة، يعني إذا قاتلنا الكفار أسلموا فأوجدنا فيهم صفة الإسلام، أما النكاح ففيه تحصيل الصفة والموصوف؛ لأنه فيه يولد الرجل الذي يكون مسلماً، ثم قال: والذي يدخل الإسلام بالنكاح أكثر ممن يدخل الإسلام بالسيف والجهاد.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: لا خلاف أن النكاح فرض في حالة التوقان، حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم.
وقال ابن رشد: فأما النكاح فإنه في الجملة مرغّب فيه ومندوب إليه، وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر على الصبر دون النساء ولا نكاح ولا كان عنده ما يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب.
وقال ابن قدامة في المغني: والناس في النكاح على ثلاثة أظرب: الأول: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامّة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح.
الثاني: من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور، فهذا الاشتغال له به، أي بالنكاح أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول أصحاب الرأي، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم وفعلهم، ثم ساق بعض الآثار عن الصحابة التي أوردنا طرفاً منها.
الثالث: قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإن احتاج الناس لإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدّم الحج، ونص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر.
وهذا فيه أنه يريد الوجوب، بل تأكد الوجوب؛ لأنه لا يقدمه على الحج إلا إذا كان يرى وجوبه رحمه الله.