(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) هذا موضع المؤاخذة، وهو ما كسبته القلوب، أي قصدته وأرادته. ولم يجئ عفو الخاطر؛ أو لم يبن على علم ناقص وما قصدته القلوب نوعان:
أحدهما - أن يقصد إلى فعل أمر أو الامتناع عن أمر مستحصدًا عزيمته على ذلك، موثقا تلك العزيمة بيمين الله سبحانه وتعالى.
وثانيهما - أن يحلف على شيء كاذب مؤكدًا قوله لسامعه ليعتقد السامع صدقه، والحالف جازم بأنه كاذب؛ وتسمى هذه اليمين يمين الغَموس، ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور، والكاذبون في التقاضي.
والمؤاخذة في النوع الأول بوجوب الكفارة إن حِنث في يمينه، وفي النوع الثاني بالإثم المستمر، حتى يتوب توبة نصوحًا، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على يمينه ضياع حق أو حكم بباطل. ولقد قرر الشافعي رضي الله عنه أنه تجب مع ذلك كفارة يمين، ولم ير الحنفية فيها كفارة، إنما الكفارة فيما يقبل الحنث، وتلك لا تقبل الحنث.
وعبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى:(بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد؛ وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه، قد اكتسبه منها، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو. والأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها؛ فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وفي موضوعها، والإصرار عليها لَا ينتج إلا خيرًا، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير، وإصرارًا عليه وإيمانا به، فتشرق بنور الله، وتستنير بذكر الله. وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم، فإن القلب يكسب منها شرًا، إذ ينكت فيه الإثم نكتة سوداء، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته، وتستغرقه سيئاته، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام.