(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي) نفت الجملة الأولى من هاتين الجملتين الساميتين الإكراه في الدين، وبينت الجملة الثانية علة هذا النفي، وكيف تدرك الأديان، ومهمة الداعي إليها؛ فأما النفي الذي قررته الجملة الأولى فهو يتضمن أمرين:
أحدهما: تقرير حقيقة مقررة ثابتة، وهو أن الإكراه في الدين لَا يتأتي؛ لأن التدين إدراك فكري، وإذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى، وتلك معان لَا يتصور فيها الإكراه؛ إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة، مفسدة للإرادة الحرة، ومزيلة للاختيار الكامل، فلا يكون إيمان ولا تدين، إذ لَا يكون إذعان قلبي، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين.
الأمر الثاني: الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؛ لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر، ونتيجة له؛ لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرهًا له ونفورًا منه.
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين، ونفي المطالبة به، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين، وليس من الموعظة الحسنة في شيء:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بالْمُهْتَدينَ).
هذه معاني الجملة الأولى السامية، أما الثانية وهي:(قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره، وتبين الغي، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق، وطمس معالمه، وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها: