والرؤى غير أنها ما برحت حافظةً عزتها وكبرها؟ فلما مدت يدها مسلمةً قالت بالفرنساوية وهي تتكلف الرقة: أي داعٍ أتى بك إلينا يا حضرة البارون؟ فانحنيت ثم أجبت بالإسبانية وأنا أحسن هذه اللغة: نبئت أن جلالة الملك مريض فأتيت أعوده حاملاً إليه هدية تؤنسه في وحشته. وأني لأرجو أن أنال الحظوى في عينه فأسليه في بلواه ولست أخاف العدوى فأحجم عن القيام بالواجب.
وكنت أتكلم محدقاً في عيني جلالتها فلم تفتني معاني الحيرة فيهما فلما سكت قالت: يسوءني يا حضرة البارون أنني لا أتمكن من قبول التماسك فإن جلالته لا يستطيع مقابلة العواد. على أنني أعدك أنني لا أكتمه حديث لطفك ومروءتك متى تم له الشفاء. فقلت وقد بسطت بين يدي جلالتها اللفافة المتضمنة اللعبة: سمعاً وطاعة! لا أخال أني صديقي ألفونس مريض إلى حد أنه لا يستطيع التسلي بمثل هذه اللعبة الجميلة. حنانيك يا مولاتي فلا تمنعي عنه فرحه بي، ولا تمنعي ابتهاجي برؤيته! فحولت الملكة وجهها عني، ولوت رأسها ثم مدت يدها بمنديلها إلى عينيها تنشف لؤلؤتين صافيتين أبرقتا فيهما.
أسليلة هابسبورج تبكي؟ إن الملكة كريستيانا أرملة ألفونس الثاني عشر، وأم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا نسيت عظمة الملك وفخفخة التاج، وعزة الصولجان، فرأيتها حينئذ أماً لا ملكة وكانت تلك الدموع دموع الأمومة لا دموع الملك!
فتقدمت من جلالتها جازعاً مرتبكاً وأنا أقول: رحماك يا سيدتي! أتراني ارتكبت إثماً بإلحاحي إلى هذا الحد فعفوك إذن عني! فمالت إلي وأمسكت بيدي قائلة بل أتيت كل جميل
وما قلت غير ما أشكرك عليه. إنني اعلم وفاءك فإذا بحت لك بالسر الذي يبكيني فلأني أعتقد بشرف خلقك: إن ألفونس لا يتمكن من قبول هديتك لأنه ليس في حجرته فقد انتشل من هذا القصر منذ أربعة أيام.
فصعقت في مكاني وهالني الأمر جداً ولكنه لم يذهب بثبات عزائمي، وحدة ذهني فلفت إلى جلالتها لفتة السائل المستفيد فأومأت بأن أجلس وجلست على مقربة مني، ثم قصت علي الحكاية كما قصصتها الساعة عليك. وزادت أنها أوعزت إلى