للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة، غرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان فى الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية. قال: وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس- رحمه الله- قال: لم ير فى الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقى بالفانى. فإذا كان فى الآخرة رزقوا أبصارا باقية، رؤى الباقى بالباقى، وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع فى حقه، انتهى.

والاستثناء فى قوله: «إلا من حيث ضعف القوة» ينبغى أن يكون منقطعا، على معنى: لكن من حيث ضعف القوة، وإلا فضعف القوة قصاراه أن يكون مانعا، أى امتنع من جهة ضعف القوة لا من جهة كونه مستحيلا، ويدل على هذا قوله: «فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع فى حقه» . وقد وقع فى صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة فى حديث مرفوع فيه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) «١» .

وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبى أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت.

فإن جازت الرؤية فى الدنيا عقلا فقد امتنعت شرعا، لكن من أثبتها للنبى- صلى الله عليه وسلم- له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل فى عموم كلامه. وفى كلام ابن كثير: أن فى بعض كتب الله المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأله الرؤية، يا موسى، إنه لن يرانى حى إلا مات. وقد جزم القشيرى- فى الرسالة- بأنها لا تجوز فى الدنيا على جهة الكرامة، وادعى حصول الإجماع عليه. وحكى القاضى عياض امتناعها فى الدنيا عن جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال القشيرى أيضا: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عن أبى الحسن الأشعرى فى ذلك قولين فى كتاب الرؤية الكبير:

انتهى.


(١) صحيح: انظر «صحيح الجامع» (٢٣١٢ و ٢٤٥٩) .