للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته، لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حده، ولم يمل عن المرئى فيزيغ، بل اعتدل البصر على المرئى لم يتجاوزه ولا مال عنه لما اعتدل القلب فى الإقبال على الله بكليته والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكليته وأعرض عما سواه، بكليته.

وللقلب زيغ وطغيان، كما أن للبصر زيغا وطغيانا وكلاهما منتف عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذى أقيم فيه، وهذا غاية الكمال والأدب مع الله تعالى الذى لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس إذا أقيمت فى مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى إلى موسى- عليه السّلام-، لما أقيم مقام التكليم والمناجاة طلبت نفسه الرؤية، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- لما أقيم فى ذلك المقام وفاه حقه، ولم يتلفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع فلم تعقه إرادة منه لشىء، ولم تقف به دون كمال العبودية همة، ولهذا كان مركوبه فى مسراه يسبق خطوه الطرف، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذى يسبق به العالم أجمع فى سيره، فكان قدم البراق لا يتخلف عن موضع نظره، كما كان قدمه- صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف عن محل معرفته.

فلم يزل- صلى الله عليه وسلم- فى خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مرتبة عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبت له هناك أقسام القرب انصبابا، وانقشعت سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا، وأقيم مقاما غبطه فيه الأنبياء والمرسلون.

فإذا كان فى المعاد أقيم مقاما من القرب تاما، يغبطه فيه الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، فأقامه فى هذا العالم على أقوم صراط على الحق