للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفى حديث مالك بن صعصعة: (فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى) «١» .

ولم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد فى ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذى يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبى بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه فى العدد دون من اتبع نبينا- صلى الله عليه وسلم-، مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.

وقال العارف ابن أبى جمرة: قد جعل الله تعالى فى قلوب أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا- صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» «٢» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة فى قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان لموسى- عليه السّلام- من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته، لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم، فرجا لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة.

فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو عن قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذى مات على الإيمان لابد له من دخول الجنة، والذى مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ، لأن الحكم فيهم قد مرّ ونفذ.

قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ


(١) صحيح: وقد تقدم.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٨٤) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، ومسلم (٩٢٣) فى الجنائز، باب: البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.