للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: قوله: «ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة» . قد جزم هو فى أول الصلاة من كتابه فتح البارى: بأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. وقال السهيلى وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه. انتهى. والمراد بقوله: (ملئ حكمة وإيمانا) أن الطست جعل فيها شىء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمى حكمة وإيمانا مجازا. ويحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسد المعانى جائز، كما أن سورة البقرة تجىء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت فى صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوى: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعانى قد وقع كثيرا، كما مثلت له- صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوى بالمحسوس.

وقال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معانى، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال عن الطست: إنه أتى به مملوآ إيمانا وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعانى ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع- صلى الله عليه وسلم- بضد ما ذهب إليه المتكلمون فى قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.

والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التى ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هى غلبة ظن، لأن للعقل- بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدّا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التى ذكرها الشارع- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التى أخبر بها- صلى الله عليه وسلم-. فيكون الجمع بينهما أن يقال:

ما قاله المتكلمون حق لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذى يدرك بالعقل.

والحقيقة ما ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث.