قالوا نجد منك ريح الطيب، قال نعم نحن فلأنه أعطر نساء العرب، فال فتأذن لي أن أشم منه؟ قال نعم، فتناول فشم، ثم قال أتأذن لي أن أعود، قال نعم، قال فاستمكنني من رأسه، ثم قال دونكم فقتلوه. وزاد أصحاب السير فاختلف عليه أسيافهم فلم تغن شيئا، قال محمد بن سلمة فذكرت معولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار، قال فرضعته في شذروته (صرّته)(والشذر خرز معروف وقطع من الذهب المتلقطة من معدنه قبل إذابته) ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وأصيب الحارث بن إدريس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا وقد أبطأ علينا، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة حتى أتانا فحملناه وجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه وأخبرناه وجئناه برأسه وتفل على جرح صاحبنا فبرىء، وأنزل الله في شأنه هذه الآية. وعلى فرض صحة نزولها فيه لا يمنع شمولها لغيره وعمومها لآخر الزمان، وكعب هذا من ألدّ الخصوم لحضرة الرسول وقد أشرنا إليه في الآية السابقة وما قبلها. قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» عن
أحد منهم لا كلّا ولا بعضا بل تبينوه كله لكل أحد بلا عوض فلم يفعلوا ولهذا قال تعالى «فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ» أي الكتمان لما في الكتاب «ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ»(١٨٧) هذه الآية وإن كانت خاصة في اليهود والنصارى فلا يبعد أن يشمل مضمونها علماء هذه الأمة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأنهم أشرف أهل الكتب السماوية كما أن كتابهم أشرف الكتب ورسولهم أشرف الرسل. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سئل علما فكتمه الجم بلجام من نار. ولأبي داود: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. والمراد بالعلم هنا علم الدين وما يتعلق به والتنكير فيه للتعظيم بما يدل على ذلك ولأن هذا الجزاء الكبير لا يترتب إلا على العلوم الدينية البحتة بدليل قول أبي هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل (أي من العهد والميثاق) على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء وتلا هذه الآية، والعهد الذي أخذ هو على الإيمان