فَصْلٌ
[أصحاب مثل الظلمات المتراكمة]
النَّوْعُ الثَّانِي: أَصْحَابُ مَثَلِ الظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَالْهُدَى، وَآثَرُوا عَلَيْهِ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ، فَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ ظُلْمَةُ الطَّبْعِ وَظُلْمَةُ النُّفُوسِ وَظُلْمَةُ الْجَهْلِ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ فَصَارُوا جَاهِلِينَ، وَظُلْمَةُ اتِّبَاعِ الْغَيِّ وَالْهَوَى، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ لَا سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ غَشِيَهُ مَوْجٌ وَمِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ مَوْجٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ مُظْلِمٌ به، فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ المَوْجِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ الَّتِي لَمْ يُخْرِجْهُ اللهُ مِنْهَا إلَى نُورِ الْإِيمَانِ.
وَهَذَانِ المَثَلَانِ بِالسَّرَابِ الَّذِي ظَنَّهُ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَهُوَ المَاءُ، وَالظُّلُمَاتُ المُضَادَّةُ لِلنُّورِ نَظِيرُ المَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالمُؤْمِنِينَ، وَهُما المَثَلُ المَائِيُّ وَالمَثَلُ النَّارِيُّ، وَجَعَلَ حَظَّ المُؤْمِنِينَ مِنْهُمَا الْحَيَاةَ وَالْإِشْرَاقَ وَحَظَّ المُنَافِقِينَ مِنْهُمَا الظُّلْمَةَ المُضَادَّةَ لِلنُّورِ وَالمَوْتَ المُضَادَّ لِلْحَيَاةِ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ فِي هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ، حَظُّهُم مِنْ الْمَاءِ السَّرَابُ الَّذِي يَغُرّ النَّاظِرَ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَحَظُّهُم الظُّلُمَاتُ المُتَرَاكِمَةُ.
وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ حَالُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ عَدِمُوا مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَالْإِضَاءَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الْوَحْيِ؛ فَيَكُونُ المَثَلَانِ صِفَتَيْنِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ تَنْوِيعُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ المَثَلِ الْأَوَّلِ هُمْ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَحُسْنِ ظَنٍّ بِالْأَسْلَافِ، فَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَأَصْحَابُ المَثَلِ الثَّانِي هُمْ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَآثَرُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute