تخسرون شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم، فيكون لكم جزاء الدنيا وجزاء الآخرة، ولا يخفى عليك أن الجملة الثانية التي هي بمثابة البدل أوفى بتأدية المعنى من الأولى، فقوله:{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أوفى بتأدية المعنى المراد من قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} حيث دلت على المعنى بالتفصيل من غير إحالة إلى علمهم وهم المعاندون. وانظر في قول القائل:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما
تجد أن قوله:"لا تقيمن" بدل اشتمال من قوله: "ارحل"، وقوله:"لا تقيمن" أوفى بتأدية المراد؛ إذ المقصود إظهار شدة الكراهية لإقامته بسبب خلاف سره العلن، وقوله:"لا تقيمن"، يحقق ذلك؛ لأنك إذا قلت: لا تقم عندنا، لم تقصد كفه عن الإقامة فحسب، وإنما تقصد إظهار الكراهة لإقامته. الصورة الثالثة من صور كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للجملة الأولى، كما في قوله تبارك وتعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}(طه: ١٢٠) ففي الجملة الأولى خفاء وإبهام، وفي الثانية بيان وإيضاح له، والبيان والمبين كالشيء الواحد، فلا يُعطف أحدهما من ثَمَّ على الآخر؛ لما بينهما من قوة الترابط وكمال الاتصال.
وتكمن بلاغة هذه الصورة في أن البيان بعد الإبهام وقعًا في النفس وأثرًا حسنًا، فالشيء إذا أبهم تطلّعت إليه النفس واشتاقت لبيانه، فإذا ما جاء البيان صادف نفسًا يَقظة متطلعة فيتمكن فيها فضل تمكن، ومن شواهده كذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(فاطر: ٣) فجملة الاستفهام بيانٌ لقوله: