في المنكر. ولو قال: إن الله يأمر بالعدل لأفاد كل هذه المعاني؛ لدخول الإحسان وإيتاء ذي القربى في العدل، ولأفاد أيضًا النهي عن الفحشاء والمنكر؛ لأن مَن يأمر بالعدل ينهى عن ضده. والفحشاء والمنكر يدخلان في هذا الضد، إلا أن الآية الكريمة نصت على كل معنى من هذه المعاني، فذكرتْ العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر، وكان لهذا التنصيص زيادة في التقرير والتثبيت، وكان الكلام كما ترى.
ولهذه القيمة البلاغية، عمَد القرآن في كثير من المواطن إلى أسلوب التكرار؛ ليوثق المعاني في النفوس. فجاء المسند مكررًا في مواضع كثيرة جدًّا، من ذلك: قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}(التكاثر:٣، ٤) يكرر هنا وعيدًا، ويؤكد ليثبت الخوف في أرجاء النفس، ويملؤها بالإشفاق والحذر؛ فتنكف عن إصرارها على العناد والكفر.
من ذلك: قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(الشرح:٥، ٦) كرر الوعد وأكده؛ ليرسل في النفس أطياف الأمل فتتبدد أشباح اليأس. هكذا نجد أن التكرار أشبه ما يكون بدندنة تستعذبها النفس المليئة، أو المستفزة شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام؛ لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع. وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب.
ولقد كانت الخنساء تلح على مقاطع من المعنى كأنها جذور غارت في ضميرها، فتجد في هزها ما يخفف آلامها الكظيمة، خذ مثلًا: طلب البكاء من عينيها تجده يشيع في ديوانها، وهو في حقيقته مظهر استسلامها لأساها، وعجزها عن فلسفة التصبر التي كانت من الممكن أن تكفكف بعض دموعها.