بنَى أحكامه المذكورة التي تحدثنا عنها على القطع والإطلاق مما جعل البلاغيين يستدركون عليه ذلك، وينبهون إلى أن تلك الأحكام ينبغي أن تكون أكثريةً لا قطعية ً، انظر إلى قول عبد القاهر: إنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في كل والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضًا كان وبعضًا لم يكن. هذا في (الدلائل).
تجده قد وضع القاعدة وضعًا قاطعًا دون أن يحتاط؛ ولذا استدرك عليه العلامة سعد الدين في (المطول) قائلًا: وفيه نظر؛ لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي.
فسعد الدين قد جعل القاعدة غالبةً لا لازمةً؛ لأن الآيات الكريمة التي ذكرها ومِثلها كثير في النظم الكريم تقدم فيها النفي على كل؛ وهذا يعني لو سلمت القاعدة أن الله -جل وعلا- لا يكره كل مختال وكل كفار، وإنما يكره البعض دون البعض، والنبي - عليه السلام - ليس منهيًّا عن طاعة كل حلاف، بل منهي عن طاعة البعض دون البعض الآخر، وهو ما لا يكون.
انتهى من (خصائص التراكيب).
أريد أن أقول:
إن القاعدة البلاغية ينبغي أن تكون أغلبيةً أكثريةً ولا تبنَى على القطع والإطلاق؛ إذ ربما يأتي في الكلام البليغ والتعبيرات الجيدة ما يخالفها مما يكون قد خفي على واضع القاعدة، وإنما أطلنا الكلام عن تقديم المسند إليه؛ لأن الكلام فيه يغني عن الكلام عن تأخير المسند؛ ذلك أن أغراض تأخير المسند هي عينُها أغراض تقديم المسند إليه.