وهذا التكرار للإسناد هو سبب وسر التقوية والتأكيد؛ ولذلك قالوا: إن قولهم: أنت لا تكذب، أقوى في نفي الكذب من قولهم: لا تكذب أنت؛ لتكرر الإسناد في الأول دون الثاني.
ومن هنا يعلم أن كل تركيب مفيد للتخصيص قطعًا أو احتمالًا هو بعينه مفيد للتقوي، وإن كان غير مقصود لوجود مقتضى التقوي وهو تكرر إسناد الناشئ من تقديم المسند إليه على الخبر فعلًا، أما التقوي فلا يلزمه التخصيص لتوقف التخصيص على شروط معينة لا يلزم تحققها من وجود تكرر الإسناد.
وقد استشهد الإمام عبد القاهر على أن تقديم المسند إليه على خبر الفعل يقتضي التأكيد والتقوية للحكم بأقوال البلغاء واستعمالاتها؛ حيث نجدهم يستعملون هذا الأسلوب في المقامات التي تحتاج إلى تأكيد، فدل ذلك على أن هذا الأسلوب -تقديم المسند إليه على خبره الفعلي- يفيد التأكيد ويحقق التقوية، وهذه المقامات والمواطن تتمثل في الآتي:
١ - إذا سبق إنكار للمنكر كأن يقول قائل: لا أعلم ما تقول، فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، فتقدم المسندَ إليه أنت، وعليه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(آل عمران: ٧٥) لأن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب وينكر كذلك علمُه بأنه كاذب، ومعلوم أن الإنكار يقتضي توكيد الحكم فقُدِّم المسند إليه لرد هذا الإنكار.
٢ - أنه يجيء فيما اعترضه شك نحو أن يقول لك قائل: كأنك لا تعلم ما قاله فلان، ويظهر شكه في علمك، فتقول: أنا أعلم ما قال ولكني أداريه.
٣ - أنه يأتي في تكذيب مدع ي ك قوله -عز وجل-: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}(المائدة: ٦١) فإن قولهم: {آمَنَّا} دعوى منهم أنهم