يا شارد الذهن! ويا قلقاً من مستقبله! ويا قلق الفؤاد جزع النفس! اشتغل بما ينفعك من علم أو عمل، واختر أحب الأعمال وأيسرها إلى نفسك، وأقربها إلى مقدورك من أعمال، أو علم نافعٍ، فإنك يوم أن تشتغل بما ينفعك، سرعان ما تزول همومك وغمومك.
إن كثيراً من الخائفين والقلقين إذا أصابته مصيبة، أو حلت بساحته الهموم والغموم، انقطع عن عمله، واحتجب عن أصحابه، واعتزل عن أهله، وخلا بنفسه، ودخل حجرة انفرادية مظلمةً، لا يريد أن يسمع صوتاً، ولا يرى نوراً، وحاله كقول القائل:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ
قد لذت له الخلوة وأنس بها، وأنس بالعزلة، فبعد ذلك تجده لا يريد أن يرى أحداً، ولا يقابل أحداً، ولا يسمع صوتاً، ولا يأكل من الطعام إلا ما يسد رمقه، ظناً منه أن عزلته تدني فرجه، وظناً منه أن احتجابه يقرب راحته، وما درى أنه بذلك كمن رام تطهير الدم النجس بالدم، كمن أراد إزالة النجاسة بنجاسة أخرى، كمن أراد سداد الدين بدينٍ آخر، كمن أراد علاج المرض بمرض أشد منه.
يا قلق الذهن وشارد الفكر! إذا نزلت بك نازلةٌ أحدثت هماً وغماً، فلا تحتجب ولا تعتزل، وكن مع الناس، وخالط واصبر، وركِّز بدقة على أمر ينفعك من علم أو عمل تميل إليه نفسك بحسب قدرتك ومهارتك وكفاءتك، فإنك بذلك تشتغل بما بين يديك، وما هو أمام ناظريك عما يجيء ويقبل به الشيطان ويدبر من الوساوس والهموم في فؤادك، اشتغل بما تشتاق إليه وتطمئن إليه من عمل نافع أو مباح، فإن الواحد -وهذا مشاهدٌ معلومٌ بالحس والمشاهدة- إذا كان مشغولاً فتراه إذا نزلت به نازلةٌ الصبح فمضى في شغله وعمله، تجده قد نسي أغلبها الصبح، ونسي جلها المساء، فغابت شمسه وقد نسيها كلها، أما من قطع أعماله, واحتجب واعتزل، فإن هذه الهموم تفرخ وتولد أمثالها، وتزيد في مرضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!