وخذوا هذا المثال الآخر وهو وقعة الحرة، وما أدراكم ما الحرة؟ لما عزم بعض أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية ووافقهم على ذلك أكثر أهل المدينة وفيهم القراء والفقهاء والعلماء، ولماذا أرادوا خلع يزيد؟ اتهموه بشرب الخمر أو شيء من أمور اللهو، قال ابن تيمية: لم يكن يزيد مظهراً للفواحش كما يحكي عنه خصومه، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: أكثر ما نقم على يزيد في عمله شرب الخمر، فأما قتل الحسين فإن يزيد لم يأمر به ولكنه لم يسؤه.
اتفق أهل المدينة على الثورة وأمروا عليهم الأمراء، وأخرج أهل المدينة واليهم عثمان فقتلوه، وأخرجوا جميع بني أمية من المدينة، وعندما علم الخليفة يزيد بما حصل قرر على الفور مهاجمة المدينة وإرجاعها خاضعة إلى طاعته، فجهز جيشاً عدته عشرة آلاف جندي وجعل أميرهم مسلم بن عقبة المري، يسميه أهل السنة مسرف بن عقبة لأنه أسرف في الدماء، وأسرف في استباحة رقاب القراء، وأسرف في استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طلب يزيد بن معاوية من أميره الذي بعثه لإخضاع المدينة، طلب من مسلم بن عقبة أن يدعو أهل المدينة ثلاثة أيام فإن رجعوا إلى الطاعة تركهم وإلا فليقاتلهم، ثم طلب منه أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وقال له: إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف لا تُبْقِ منهم، أجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم وإياك أن تبقي عليهم، هذه من الفتن التي ربما سعى الواحد فيها بكلمة وهو لا يدري، أو بخطوة وهو لا يدري، وقد جاءنا في منهج نبينا صلى الله عليه وسلم حال الفتن أن من كان ماشياً فليقف، ومن كان واقفاً فليقعد ومن كان قاعداً فليضطجع هروباً وبعداً ونأياً عن مثل هذه الفتن، قدم مسلم بن عقبة، بل مسرف بن عقبة، لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة ٦٣ هجرية فاقتتل الناس ساعة والنساء والصبيان يصيحون وينوحون على قتلاهم، وجعل مسرف بن عقبة يقول من جاء برأسٍ فله كذا وكذا، ومن جاء بأسيرٍ فله كذا وكذا، وجعل يغري أقواماً لا دين لهم، فقتلوهم إلا قليلاً وقتلوا ما لا يحصى ولا يعد، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حصل فيها من المآسي والفظائع وجالت الخيل في المدينة يقتلون وينتهبون والخيل تجول في كل جهة قتلاً ونهبا، حتى لم يبق من الناس أحدٌ يرفع سيفاً أو يرمي بسهمٍ أو يلوح بنبلٍ، وقد نقل الواقدي عن عبد الملك بن جعفر قال: سألت الزهري كم بلغ القتلى يوم الحرة قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجهاء الناس فسبع مائة قتيل، وأما سائر من قتلوا غير هؤلاء فقد بلغوا عشرة آلاف، عشرة آلاف وسبعمائة قتيل في فتنة كان باعثها رضوان الله، كان قصدها وجه الله، كان باعثها الغيرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي متى؟ عام ثلاثة وستين للهجرة، يعني بعد موت النبي بثلاثة وخمسين سنة، وقتل الحسين قبلها بأقل من ذلك، فما بالنا في هذا الزمان بعد موت نبينا، أو من هجرة نبينا (١٤١٤هـ) إن الأمر جدُّ خطير يا عباد الله، ولأجل ذا نعيد ونزيد ونكرر ونقول لجميع الشباب خاصة، ولجميع أهل الخير والآمرين وذوي الغيرة الذين ما علمنا في قلوبهم إلا حب الله ورسوله، وما علمنا في قلوبهم إلا الغيرة على دين الله وكتابه وسنة نبيه نقول: من الضرورة أن نستحضر هذه الحوادث، وأن نتذكر تلك الوقائع حتى لا يجرفنا الحماس أو تمضي بنا العاطفة إلى أمرٍ لا نحمد عاقبته، ولو بكلامٍ نقوله في مجلسٍ بمجرد الحديث وتبادل الآراء في تلك الوقعة التي استباح بها مسرف بن عقبة المري مدينة رسول الله أصيب نساءٌ وصبيان بالقتل، وقتل جماعة من وجوه قريش والأنصار وخيار الناس من الصحابة وأبنائهم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي قائلاً: قتل يوم الحرة ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد ذلك بدري، وعن ابن وهب بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، من حملة كتاب الله جل وعلا، وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على وقعة الحرة فقال عن يزيد: وهذه من كبائره ولهذا قيل لـ أحمد بن حنبل رحمه الله أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل، وقال ابن كثير: وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة ما لا يحد ولا يوصف، ومما لا شك فيه أن من قام على يزيد بن معاوية لو كانوا يعلمون أن الأمور ستئول وتفضي إلى ما آلت إليه من قتل بعض الصحابة والقراء ووجهاء المهاجرين والأنصار؛ ما رفعوا سيفاً وما أشاروا بنبلٍ أبداً.