أحدهما: أن طريق التدين هو بيان الرشد، وبيان الصواب، وبيان الضلال في وسط النور؛ فمن رأى الحق بينًا فقد أدرك السبيل، وعليه أن يسير فيها، وليس لأحد أن يحمله حملا؛ لأنه لَا سبب للتدين إلا المعرفة، بإدراك الحق وغايته، ومعرفة الباطل ونهايته. وذلك المعنى في مرتبة التعليل للنهي عن الإكراه ونفيه، لأنه إذا عرف الحق معرفة مثبتة له بالأدلة القاطعة، وعرف الباطل معرفة مبينة وجه الضلال فيه، فقد توافر سبب التدين، ومن كفر بعد ذلك فعن بينة كفر، ولا سبيل لهدايته، وليتحمل مغبة كفره بعد هذه البينات الواضحة الكاشفة.
الأمر الثاني: الذي يدل عليه قوله تعالى: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي)، هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد، وهو بيان الرشد من الغي، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى:(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. . .).
وإذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز، ولم يعد مختلطا به، بل خلص منه، وخرج نيرًا واضحًا. كما يخرج أشور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة، وظهوره ساطعًا منيرًا هاديًا، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق، ومن بقي مترديًا في الباطل، فعليه إثم بقائه، وما عليك من أمره شيء، ولذا قال سبحانه:(فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوت وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا) الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان، ويؤدي معنى الطغيان، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه، وفي وزنه الصرفي.
والطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها، أو على العقل فيضله، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلمًا، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية، وآراء فاسدة؛ ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن، والشيطان، وكل رأس للضلال. وقد جاء في تفسير القرطبي: قد يكون واحدًا؛ قال الله تعالى: