خرجت ذات ليلة من داري وأنا بين الهم والغم، وفي صدري من الأشجان ما في قلبي من الأحزان، فضربتُ في الطريق من غير صديق. اللهم إلا نفس يتردد، وحزن يتجدد، فما زلت كذلك حتى اكتنفني التعب، وغلب علي النصب. وكنت على مدى النظر من الجزيرة فرأيت أن أكون فوق الجهد، لأدني مسافة البعد، فصدقت. عزيمتي بعد جهاد، وبلغت اربتي أو كدت أكاد، وما هي إلا خطرة مرت مر النسيم، تحت سجن الليل البهيم، حتى بصرت بظل يسرع في مشيته، وكأني به يقاضي الأقدار في محنته، ولما أمسى مني حيث أمسيت منه، تسرب إلى نفسي أن أقف منه على نفسه لأن البائس يميل إلى البائس، واليائس يحن إلى اليائس. والوجوه صحيفة لما تخفيه السرائر أو تضن به الضمائر. فألقيت عليه تحيتي فأردفها بأحسن منها، ثم جعلت له إلى الحديث سبيلاً فتمشى الحزن في صدره حتى كدت أحس به في صدري، وأسبل من جفونه دموعاً في كل دمعة لؤلؤة بيضاء ترى على خده ياقوتة حمراء كأنها بنت الشفق، في ذلك الغسق.
فقلت له: ما شأنك يا بني؟ وما أمر الجائحة التي نزلت بك؟
فقال لي بصوت لا يسمعهُ إلا من أراد أن يتسمع: إنني ولدت في يومٍ أخذ صباحه بمسائه، وذهب ظلام بضيائه. فتوفي والدي قبل عقد التمائم، فأسلمتني الأقدار إلى أم حنون لا تملك من المال غير ما يغني عن السؤال، وكانت تلك الأم الكيسة تعمل صباح مساء في بيت