للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

الْعَذْبَةِ حَتَّى غَدا مُقْرِئًا، مُحَدِّثًا، فَقِيهًا، فَرَضِيًا (١)، أَدِيبًا، فَصِيحًا، شَاعِرًا.

وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ إِذَا مَا سَجَا (٢) اللَّيْلُ وَهَدَأ الْكَوْنُ انْصَرَفَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ يَقْرَأُ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ، فَتُصْغِي لِتَرْتِيلِهِ أَفْئِدَةُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَتَخْشَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتَفِيضُ عُيُونُهُمْ بِالدَّمْعِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.

وَقَدْ دَعَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا فَقَالَ: اعْرِضْ عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَا عُقْبَةُ، فَقَالَ: سَمْعًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأُ لَهُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ آيِ الذِّكْرِ الْحَكِيم، وَعُمَرُ يَبْكِي حَتَّى بَلَّلَتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ.

وَقَدْ تَرَكَ عُقْبَةُ مُصْحَفًا مَكْتُوبًا بِخَطِّ يَدِهِ، وَبَقِيَ مُصْحَفُهُ هَذَا إِلَى عَهْدٍ غَيْرِ بَعِيدٍ مَوْجُودًا في "مِصْرَ" فِي الْجَامِعِ الْمَعْرُوفِ بِجَامِعِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِهِ: "كَتَبَهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ".

وَمُصْحَفُ عُقْبَةَ هَذَا مِنْ أَقْدَمِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي وُجِدَتْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَكِنَّهُ فُقِدَ فِي جُمْلَةِ مَا فُقِدَ مِنْ تُرَاثِنَا الثَّمِينِ، وَنَحْنُ عَنْهُ غَافِلُونَ.

* * *

وَأَمَّا فِي مَجَالِ الْجِهَادِ؛ فَحَسْبُنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ "أُحُدًا" وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَغَازِي، وَأَنَّهُ كَانَ أَحَدَ الْكُمَاةِ الأَشَاوِسِ الْمَغَاوِيرِ، الَّذِينَ أَبْلَوْا يَوْمَ فَتْحِ "دِمَشْقَ" أَعَزَّ الْبَلَاءِ وَأَعْظَمَهُ، فَكَافَأَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَاحِ (٣) عَلَى حُسْنِ بَلَائِهِ بِأَنْ بَعَثَهُ بَشِيرًا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَدِينَةِ لِيُبَشِّرَهُ بِالْفَتْحِ، فَظَلَّ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ يُغِذُّ السَّيْرَ دُونَ انْقِطَاعِ، حَتَّى بَشَّرَ الْفَارُوقَ بِالْفَتْحِ الْعَظِيمِ.

ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ أَحَدَ قَادَةِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فَتَحَتْ "مِصْرَ"، فَكَافَأَهُ أَمِيرُ


(١) فرَضِيًا: عالمًا بالفرائض، والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات.
(٢) سجا اللّيل: هدأ وسكن.
(٣) أبو عبيدة بن الجراح: انظره ص ٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>