وقال في باب الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يونقك وتذهب في الاستحسان كل مذهب بك وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعيها وتلاحظ إحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها فأول ذلك عنايتها بلفظها فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا اكن مسجوعاً لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظ كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنفت لمستعمله وإذ لم يكن كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيءَ به من أجله. وقال لنا أبو علي يوماً قال لنا أبو بكر إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه (؟) وكذلك الشعر النفس أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقول من الشعر فلأجل قوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مسمعه وما تصير قوله كلما يرجع إليه ويقاس به ألا ترى إلى قول العبد الأسود:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وقول نصيب:
سودت ولم أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنايقه
وقول لآخر:
إني وإن كنت صغيراً سني ... وكان في العين نبو عني
فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن
حتى يزيل عني التظني
فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا عزوبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتكوينه وتقديسه وإنما