للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن ذلك اتساع خلقه فى شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه. وقال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة فى قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفى ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتنطبع للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فى أوطان القرب وحسبك من تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أن خيره ربه تعالى بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطاه الله تعالى بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفع، فلم يأكل متكئا بعد ذلك حتى فارق الدنيا. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «١» رواه الترمذى.

ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه لا ينهر خادما، روينا فى كتاب الترمذى عن أنس قال: خدمت النبى- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى أف قط ولا قال لشىء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشىء تركته لم تركته؟ «٢» وكذلك كان- صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية.

وفى رواية مسلم: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «٣» . وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا


(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٤٥) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، وأحمد فى «المسند» (١/ ٢٣ و ٢٤ و ٤٧) ، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٨) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (٢٣٠٩) فى الفضائل، باب: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا.
(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٦) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.