محمدا صلّى الله عليه وسلم قال له ربه «ما ضَرَبُوهُ لَكَ» أي المثل بعيسى «إِلَّا جَدَلًا» خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» ٥٨ ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية. وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد الله بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء، ونحن مع أولئك، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه، ولسنا بأحسن منهم أيضا، ففرحت قريش، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلّى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون الله تعالى، فرد الله عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية ٩٩ من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله فراجعه. قال تعالى «إِنْ هُوَ» ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك، إذ ليس بإله وما هو «إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد «وَجَعَلْناهُ مَثَلًا» عبرة عجيبة وآية كبيرة «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» ٥٩ إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب، راجع الآية ٩٠ من آل عمران في ج ٣، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة الله تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها، قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا» ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة «مَلائِكَةً» كما ولدنا عيسى، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب،