نهيتنا عن البكاء؟ قال ما نهيتكم عن البكاء وانما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح وصوت عند الترح. وعن الحسن أنه بكى على ولد له أو لغيره فقيل له في ذلك فقال ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام وقد ينشأ ذلك عن المحبة الشديدة التي تزيل من القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الدعاء والتضرع له وقد يوصل ذلك إلى الكمال ويعد سببا للاستغراق في الله تعالى، قال تعالى «قالُوا» أولاد يعقوب الموجودون عنده لما رأوا شدة تأثره «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا» لا تزال «تَذْكُرُ يُوسُفَ» ولا تعتر عن ذكره «حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً» دنفا مشرفا على الموت ذائبا من الهم مضمحلا من الأسى «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ٨٥» الميتين بسببه، وهذا من قبيل بناء الأمر على غالب الظن لما رأوا من حاله وكظمه غيظه، لأن تردد الحزن في الجوف مما يودي إلى الهلاك غالبا، فلا يقال كيف حلفوا على ما لم يعلموه، وإنما وقع من يعقوب عليه السلام هذا لأنه لم يقطع بوفاة يوسف كما ذكرنا آنفا، ولم يصدقهم بوقوع السرقة من بنيامين، وان زيادة صبره على يوسف وطول فراقه قد حزّ قلبه، وزاد في جزعه ما وصم به بنيامين فلا لوم عليه.
هذا، وحذف حرف النفي من تفتأ في جواب القسم تخفيفا لمعلوميته موضعها لأن تفتأ تدل على النفي المحض، فإذا دخلت عليها لا النافية صارت متمحضة للإثبات ولذلك قالوا إن نفي النفي إثبات، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
لأن برح وفتيء ودام أخوات متمحضات للنفي، فإذا ادخل عليها حرف النفي تمحضت للإثبات، والحرض معناه في الأصل فساد الجسم والعقل من الحزن والهم حتى يكون مهزولا نحيفا، وهو مصدر حرض بكسر الراء، وجاء أحرض أيضا كما في قوله:
اني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شقني السقم
ولكونه كذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، لأن المصدر يطلق على القليل والكثير والمؤنث والمذكر.