للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدلِّسًا، أم غير مدلّس، ولم يكتفوا بالمعاصرة، واحتمال اللقاء، كما ادّعاه المصنّف هنا.

قال الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: وما قاله ابن المدينيّ، والبخاريّ هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفّاظ، بل كلامهم يدلّ على اشتراط ثبوت السماع كما تقدّم عن الشافعيّ رحمه الله، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة، وقالوا مع ذلك: لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة، منهم الأعمش، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون (١)، وقرّة بن خالد (٢)، رأوا أنسًا، ولم يسمعوا منه، فرواياتهم عنه مرسلة. كذا قاله أبو حاتم، وقال أبو زرعة أيضًا في يحيى بن أبي كثير، ولم يجعلوا روايته عنه متّصلةً بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللُّقِيّ (٣).

وقال أيضًا: فإذا كان هذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث، وعلله، وصحيحه، وسقيمه، ومع موافقة البخاريّ وغيره، فكيف يصحّ لمسلم رَحِمَهُ اللهُ دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتّفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفّاظ المعتدّ بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يُعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم (٤).

وقال أيضًا: وقد ذكرنا من قبلُ أن كلام الشافعيّ إنما يدلّ على مثل هذا القول، لا على خلافه، وكذلك حكاية ابن عبد البرّ عن العلماء، فلا يبعد حينئذ أن يقال: "هذا قول الأئمة من المحدّثين والفقهاء". انتهى كلام ابن رجب (٥).

وبالجملة فما ذهب إليه الإمام مسلم رَحِمَهُ اللهُ هنا من أن هؤلاء الأئمة لم يفتّشوا عن محلّ السماع إلا إذا كان الراوي اشتهر بالتدليس مذهب لا يؤيّده الواقع؛ إذ قد سبق فيما أسلفناه من كلامهم أنهم لا يفرّقون بين المدلس وغيره في البحث عن ثبوت السماع، بل لا بدّ عندهم حتى تُحْمَل العنعنة على الاتصال من ثبوت السماع بين الْمُعَنْعِن والْمُعَنْعَن عنه مطلقًا.

فما ذهب إليه الجمهور من أن عنعنة المعاصر لا تحمل على الاتصال إلا إذا ثبت، لقاؤه له، وسماعه منه، ولو قليلًا هو الحقّ والصواب، فتأمّله بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب.


(١) لم يوصف بالتدليس.
(٢) لم يوصف بالتدليس.
(٣) راجع "شرح علل الترمذيّ" ص ١/ ٣٦٥ - ٣٦٦.
(٤) المصدر المذكور ص ١/ ٣٧٢.
(٥) المصدر المذكور ص ١/ ٣٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>