قال ابن رُشيد: وقولهما معا لا يخلو من إجمال، إذ لا بد أن يكون مراد الحاكم ثبوت المعاصرة أو السماع، إذ لا يقبل معنعن من لم تصح له معاصرة، فلا بد من قيد. وكأنه اكتفى عنه بقوله:"على تورع رواته عن التدليس".
وقد سبق له في كتابه هذا في (النوع الرابع) منه في معرفة المسانيد من الأحاديث تقييد ذلك بما نصه: "والمسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه بسن محتملة، وكذلك سماع شيخ من شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
إلا أن هذا الموضع من كتاب الحاكم فيه اضطراب بين رواته، فرُوي كما ذكرناه بـ "سن محتملة"، وعند ابن سعدون "بسن يحتمله". والمعنى واحد: أي أنه يُكتفَى في ظهور السماع بكون السن تحتمل اللقاء، ومعنى هذا يُكتَفَى بالمعاصرة، وإلى هذا المعنى ذهب مسلم رحِمَهُ الله حيث قال:"وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا: أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه؛ لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتةٌ، والحجة بها لازمة، إلا أن تكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يَلْقَ مَنْ رَوَى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بَيّنّا. انتهى.
وإلى هذا المعنى أيضا ذهب الحافظ أبو عَمْرٍو المقرىء الداني في جزء له، وضعه "في بيان المتصل والمرسل والموقوف والمنقطع"، فقال: "المسند من الآثار الذي لا إشكال في اتصاله، هو ما يرويه المحدث عن شيخ يَظهَر سماعه منه بِسِنٍّ يحتملها، وكذلك شيخه عن شيخه، إلى أن يصل الإسناد إلى الصحابي، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
فهذا موافق ظاهره لهذه الرواية. وقد يحتمل أن يكون مراده بقوله: "يظهر سماعه بسن تحتمله" أي أنه يُعلَم السماع بقوله، وتكون سنه تُصَدِّقُ ذلك. والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال -إن صحّت النسخة- هو الأولى، والأقوى. والله تعالى أعلم.
ويروى أيضا كلام الحاكم: "يَظهَر سماعه منه، ليس يحتمله". قال ابن رُشيد: وهكذا قرأته بخط خَلَف بن مُدبر في أصله، وذَكَر في صدر كتابه: أنه رَوَى الكتاب عن الباجي والعذري. قال: وهذه الرواية عندي أظهر، وعليها يدل كلامه بعدُ عند التمثيل.