للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنه قول ابن المبارك: العلم هو الذي يجيئك من ههنا، ومن ههنا -يعني المشهور-. أخرجه البيهقيّ من طريق الترمذيّ، عن أحمد بن عبدة، عن أبي وهب، عنه. وأخرج أيضًا من طريق الزهريّ، عن عليّ بن حسين، قال: ليس من العلم ما لا يُعرَف، إنما العلم ما عُرف، وتواطأت عليه الألسن. وبإسناده عن مالك، قال: شرّ العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وروى محمد بن جابر، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون غريب الحديث، وغريب الكلام. وعن أبي يوسف، قال: من طلب غرائب الحديث كذب. وقال أبو نعيم: كان عندنا رجل يصلّي كلّ يوم خمسمائة ركعة، سقط حديثه في الغرائب. وقال عمرو بن خالد: سمعت زُهير بن معاوية، يقول لعيسى بن يونس: ينبغي للرجل أن يتوقّى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلًا كان يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث.

وذكر مسلم في "مقدّمة كتابه" من طريق حمّاد بن زيد أن أيوب قال لرجل: لزمت عَمرًا؟ قال: نعم، إنه يجيئنا بأشياء غرائب، قال: يقول له أيوب: إنما نَفِرُّ، أو نَفْرَقُ من تلك الغرائب. وقال رجلٌ لخالد بن الحارث: أَخْرِج إليّ حديثَ الأشعث، لعلي أجد فيه شيئًا غريبًا، فقال: لو كان فيه شيء غريبٌ لمحوته. ونقل عليّ بن عثمان النفيليّ، عن أحمد، قال: شرّ الحديث الغرائب، التي لا يُعمل بها، ولا يُعتمد عليها. وقال المرّوذيّ: سمعت أحمد يقول: تركوا الحديث، وأقبلوا على الغرائب، ما أقلّ الفقه فيهم. ونقل محمد بن سهل بن عسكر، عن أحمد، قال: إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب، أو فائدة، فاعلم أنه خطأٌ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدّث، أو ليس له إسنادٌ، وإن كان قد رَوَى شعبة، وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: لا شيء، فاعلم أنه حديث صحيح. وقال أحمد بن يحيى: سمعت أحمد غير مرّة، يقول: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامّتها عن الضعفاء.

قال أبو بكر الخطيب: أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان، يغلب عليهم كَتْبُ الغريب، دون المشهور، وسماع المنكر، دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ، من رواية المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبًا، والثابت مصدوفًا عنه مُطَّرَحًا، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة، ومحلِّهم، ونقصوان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلّمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمّة من المحدّثين الأعلام، من أسلافنا الماضين.

قال الحافظ ابن رجب: وهذا الذي ذكره الخطيب حقّ، ونجد كثيرًا ممن ينتسب

<<  <  ج: ص:  >  >>